المولد النبوي الشريف
مولد
الهادي المختار
الحمد لله الذي منَّ
على هذه الأمَّةِ ببعثَةِ خيرِ البرايا ، وجعل التَّمَسُّكَ بِسُنَّتهِ عصمةً من الفتن
والبلايا ، أحمده تعالى وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأسأله الثَّبات على السُّنَّة
والسَّلامة من المحن والرَّزايا ، وأشهد أن لاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له ، عَالِمُ
السَّرِ والخفايا ، والمُطَّلِعِ على مكنون الضمائر والنَّوايا ، وأشهد أنَّ سيِّدنا
ونبيَّنا وحبيبنا وقدوتنا مُحَمَّداً عبده ورسوله ، كريمُ الخصال وشريفُ السَّجايا
، والمجبولِ على معالى الشَّمائلِ والمعصُومِ من الدَّنايا ، عليه من الله وعلى آله
وأصحابه وأتباعه ، أفضل الصلواتِ وأزكي التسليماتِ وأشرفُ التَّحايا ..
صلى عليك الله يا
علم الهدى
واستبشرت بقدومك الأيامُ
هتفت لك الأرواحُ
من أشواقها
وَازَّيَّنَتْ بِحديثك الأقلامُ
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصي
نَفْسِي وإيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِن رَّحْمَتِهِ ، وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾([1]).
معاشر المسلمين : كُلَّ مَا حَلَّ
بنا شهرُ ربيعٍ الأول ، إلاَّ وحلت معه تلك الذكرى العظيمة ، لذلك الحدث التاريخي
البهيج ، الذي تحوَّلت به حياة البشرية جمعاء ، ففي ذلك العام الذي اشتهر بعام
الفيل ، وفي شهر ربيع الأول منه ، الذي عُرِف بربيع الأنوار ، في هذه الأيام ،
تبتهج القلوب ، وَتُسَرُّ النفوس ، وهي تتذكَّر مولد خير الأنام ، نبينا محمد عليه
أفضل الصلاة وأزكى السَّلام ، الذي منَّ الله به على المؤمنين ، فقال تعالى ﴿ لَقَدْ
مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ
، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
، وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾([2]).
أحباب المصطفى
صلى الله عليه وسلم : في ذكرى المولد النَّبويِّ
الشَّريف ، ما أحوجنا في عصرنا هذا ، الذي اختلفت فيه الأهواء ، وتعددت المشارب ،
وكثرت النزاعات ، وسادت الأنانية ، وكثر الهرج ، ما أحوجنا ونحن في هذا العصر ، إلى
الاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم ، امتثالا لقول الله تعالى ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾([3]).
أخي المسلم:
فلنتساءل ونحن نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف، ما موقعنا اليوم من سنة رسول الله-
صلى الله عليه وسلم ؟ أين نحن من خلق رسول الله ؟ كيف لنا أن نُقَيِّمَ حُبَّنا لرسول الله- صلى الله
عليه وسلم- وقد انتشرت من حولنا الأسقام والفواحش وفسدت الأخلاق ، وظهر في المجتمع
استباحة دماء المسلمين ؟ وكيف لنا أن ندعي حُبَّنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ونحن في غفلةٍ دائمة ، وَلاَ نُخْلِصُ أعمالنا لله ، وَنُظْهِرُ عُيُوب الناس وننسى
عُيُوبنا ، نُصِرُّ على المعاصي ونشتغل بالتسويف في الطاعات ، وهناك من شغلته الدنيا
عن أداء الصلاة ، ابتعدنا شيئا فشيئا عن جوهر الدِّين ، وعن أخلاق رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، يَظْلِمُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَيَظْلِمُ غيره ، أَغْوَتْهُ الدُّنيا ونسي
الآخرة ، يعقُّ والديه ولا يَسْلَمُ الجار من بوائقه ، وأصبح الصغير لا يوقر الكبير،
ويتكبَّر بعضنا على البعض ، وانتشرت في مجتمعنا
الصفات المذمومة ، كالسِّحر والشَّعْوذة والزِّنا ، والبعض تجارته الغش والحقد والحسد
والنميمة والغيبة والكذب ، وقد لا يُحْسِنُ معاملة ذويه ، ولا يؤدِّي الأمانات ويشهد
الزُّور ، ولا يُزَكِّي أموله ، وآخر يأكل أموال اليتامى ، وأموال المسلمين بغير حق
، كيف لنا أن نجزم أننا نحب رسول الله ، ولم نرحم المسكين واليتيم ، والذي يفترش الأرض
ويتغطى السماء ، ولا يجد قوت يومه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بأن
نزرع الخير في هذه الدنيا ، لننال أجره يوم القيامة ، فَيقول عليه الصَّلاةُ
والسَّلام « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ
، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِى . قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِى فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ
أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِى عِنْدَهُ ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ
تُطْعِمْنِى. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ
أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ
أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ
فَلَمْ تَسْقِنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ،
قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ
وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى »([4]).
إخوة الإيمان
: ونحن نعيش في هذا المجتمع ، ونرى وننظر إلى ما فيه من شرور وإفساد ، فماذا أعددنا
للتصدي لأعداء الدِّين ، الذين يتربصون بنا ، مستخفين وظاهرين ، يسعون إلى إفساد شبابنا،
تارةً بالأفكار المسمومة - وَيُسَخِّرُونَ لذلك أساليب مختلفة - وتارةً بالخمور والمخدرات
وبالرذيلة ، وغيرها من وسائل التَّدمير والإفساد ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم
يحذِّرنا من هذه الأعمال ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، خَمْسٌ
إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ، لَمْ تَظْهَرِ
الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ
، وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.
وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ
الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ . وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ
إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا
، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ . وَمَا لَمْ تَحْكُمْ
أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ
اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ »([5]).
إخوة الإيمان :
هذه بعض مظاهر الخلل الذي نعيشه في مجتمعاتنا الإسلامية ، وللأسف نُفَضِّلُ التعامل
مع هذا الوضع باللامبالاة ، تُرى ما الذي تغيَّر فينا كمسلمين ، والحقيقة المرة ، هي
أننا فُتِنَّا في ديننا وفي حياتنا ، ونسينا أن الدنيا فانية وأننا سنموت ، واتبعنا
سُبُلَ الشيطان ، ونحسب أننا مهتدون ؛ خرجت الرحمة من قلوبنا ، وابتعدنا شيئا فشيئا
عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ من رحم الله ، وغاب الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر في مجتمعاتنا ، لهذا كله يجب عليك
أخي المسلم ، أن تبدأ بنفسك وبمحيطك ، وتكون رحيما بنفسك ، فتسوقها إلى ما يحبُّه الله
ويرضاه ، وتجنبها المعاصي والمهالك، وأن تكون رحيما بأسرتك رفيقا بها ، معتنيا بتنشئتها
على محبة وطاعة الله ورسوله ، وأن تكون رحيما بمن حولك من المؤمنين لَيِّنا معهم لاَ
فَظّا غليظا، وأن تحسن معاشرتهم وأن تسعى إلى تقريبهم من ربهم سبحانه وتعالى ،
بالحكمة وبالموعظة الحسنة . عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الأنصاريَّة أَنَّ النَّبِىَّ
-صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ». قَالُوا بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى ». ثُمَّ
قَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفْسِدُونَ
بَيْنَ الأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ للْبُرَآءِ الْعَنَتَ »([6]).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأخيار ، الذين إذا رؤوا ذكر الله عزَّ وجل ، أقول
قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم .
الخطبة
الثانية
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، صلى الله
وسلم وبارك عليه ، عدد من أحبَّه ووقَّره
وصلى عليه ، واتبع هديه وسنته ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا . أما
بعد :
فيأيها
المسلمون : إنَّ
الاحتفال الحق بميلاد النبي الكريم ، هو احتفالٌ بعظمةِ رسالة الإسلام ، وبالقيم
الرفيعة ، التي أرسى دعائمها القرآن الكريم ، والتمسك بالمنهج القويم ، بعيدا عن
العادات الفاسدة ، واستعمال الأساليب والممارسات الخاطئة ، كإطلاق الأعيرة النارية
، والمفرقعات والمتفجرات ، والتي لا علاقة لها بهذه المناسبة ، فهي مظاهرُ
تُبْعِدُنا كثيرا عن جوهر الاحتفال بهذه الذكرى ، وهي وسيلةٌ من وسائل الضجيج
والفوضى ، من شأنها التأثير على استقرار وأمن بيوتنا وعائلاتنا، التي يجب أن تعيش
هذه المناسبة، في صفاء وود وحبٍ ووئام .. فلنتق الله عباد الله ، ولنتجنب كل هذه الممارسات الخاطئة ، ولنتتبع
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونسير على خطاه ، ولنكن نماذج حيَّةً لمناقبه، ومحامده وأخلاقه ،
حتى يَعْرِفَ الناس فَضْلَهُ وسبقه، فلا تشوهوا صورته ، وتنتقصوا من عظمته ،
وانصروا دينه ووقروا سيرته ، واشكروا الله الذي منَّ علينا بنبوته ورسالته ، ولنتبع
النور الذي انزل معه ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ
النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾([7]). نسأل الله سبحانه وتعالى ، أن يعيد علينا هذه المناسبة
أعواما عديدة ، وأزمنة مديدة ، ونحن في فرحٍ وسرور، وأمن واستقرار واطمئنان ..
ليست هناك تعليقات