اعصار دانيال ومأساة مدينة درنة
إعصار دانيال ومأساة مدينة درنة
الحمدُ لله الذي صبَّ الماء صبًّا، وشقَّ الأرض شقًّا، وأنبتَ
فيها حبًّا وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائقَ غُلْبًا، وفاكهة وأبًّا، متاعًا
لكم ولأنعامكم ، أحمده سبحانه، وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهدُ أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، جعَل من الماءِ كُلَّ شيء حيٍّ، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا
ونبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه ، كان يَتَوَجَّسَ خوفًا اذا رأى غَيْمًا في السَّماء،
وَيَخَافُ من نُزُولَ الصَّوَاعق ، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه
الْحُكَمَاء ، وعلى التَّابعين لهم بإحسانٍ مادامت الأرض والسَّمَاء ، أمَّا بعدُ:
فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى لله القائل سبحانه ﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً
﴾([1]).
عباد الله : إن آيات الله سبحانه وتعالى في هذا الكون كثيرة وعظيمة ومن
هذه الآيات التي يُخَوِّفُ الله جل وعلا بها عباده آيةُ الأعاصير والرياح العاتية .
فلقد شهدت مدن الشرق في بلادنا ، في الأيام القريبة الماضية ، أمطارا ورياحاً عاصفة
وسيولا قاصفة ، وفي لحظات معدودة ، فَقَدَ الآلاف أرواحهم ، وبيوتهم وأموالهم ، وَفَقَدَ
الكثيرين أفرادا من ذريتهم وأولادهم ، وعائلاتٍ بأكملها فقدت وكأنها ماكانت ، ومسح
الإعصار أحياءً بأكملها وبمن فيها. ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ
الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ، وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ، وَمَن
يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ، وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾([2]).
مات في هذه الكارثة الآلاف وفقد الآلاف ، وتشَرَّدَ الآلاف ، فإنَّا لله وإنا إليه
راجعون ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ
وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾([3]).
نسأل الله تعالى أن يتغمَّدهم بواسع رحمته ويسكنهم فسيح جناته.
عباد الله : إِنَّ هطول الأمطار
ونزول الماء رحمةٌ من الله وبركةٌ على خلقه ، وربما يكون عقاباً وعذاباً لآخرين ، ولعل
هذا السِّر في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ
فِى وَجْهِهِ ، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ النَّاسَ
إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ ، وَأَرَاكَ
إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِى وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ . فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ مَا
يُؤْمِنِّى أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ ، عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ ، وَقَدْ رَأَى
قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا ( هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) »([4]).
وَعَنْهَا أيضًا رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم-
إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ
مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا
فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ ». قَالَتْ وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ
لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّىَ عَنْهُ
فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ « لَعَلَّهُ
يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ ، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) »([5]).
هكذا كان سيدُ الخلق ، وأعرفُ الخلق بالله عزَّ وجل ، فما بالُنَا نحن نَغْفَلُ عن
هذا ، وكأنَّنَا بِمَأْمَنٍ من أنْ يُصِيبَنَا عذابٌ بالريح أو بالمطر أو الفيضانات
أو الزَّلازل أو غيرها. وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا رأى الغيث
« اللَّهُمَّ صَيِّباً نَافِعاً »([6]).
وفي رواية لأبي داود « اللَّهُمَّ صَيِّباً هَنِيئاً »([7]).
وثبت عنه أيضاً أنه قال : « مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ »([8]).
وَكَانَ إذا كَثُرَ المطر وَخَشِيَ منه الضَّرر يدعو قائلاً :« اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا
وَلاَ عَلَيْنَا ، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ
وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ »([9]).
استشعارٌ ومعرفةٌ بحال الله عز وجل في خلقه ، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام يواجه
هذه الحالة التي تجري في هذا الكون ، بالخشية والخوف والإنابة والدعاء.
عباد الله : إنَّ ما حدث في مدن شرق بلادنا عامة ، وفي مدينة درنة بوجهٍ
خاص ، من كارثة السيول والفيضانات ، وانهيار السدود والجسور ، كان من نتائجها ، بيوت
انجرفت ، وطرق تهدمت ، ومركبات انجرفت وانقلبت
وغرقت، وأعظم من هذا كله آلاف الأرواح أزهقت وأخرى فُقدت، وأُخرى شرِّدت ، لعمري
إنَّ هذا لهو أمرٌ يحزن ويبكى كل مسلم ، يَتَأَلم وَيَحْزَنُ لمصيبة أهله من بني
وطنه ، وإخوانه المسلمين ، فالمجتمع المسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسَّهر والحمى. ولكن ما عند الله خيرٌ وأبقى؛
لِكُلِّ شَيءٍ
إذا ما تمَّ نُقصَانُ
فلا يُغَرُّ بطِيب العَيشِ
إنسانُ
فجائعُ الدُّنيا
أنواعٌ منوعـةٌ
وللزَّمـان مسراتٌ وأحـزانُ
وَهَذِهِ الدَّارُ
لا تُبْقِي على أحدٍ
ولا يدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا
شانُ
يقول المولى جل وعلا ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ، إِنَّ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾([10]).
اللهم لا اعترض على قضاءك وقدرك ، وإنما التسليمُ والاحتساب والصبر. فنسألُ الله تعالى أن يتداركنا بلطفه وعفوه ورحمته ، إنه
سميع قريب مجيب الدعاء ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من
كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وعلى
آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى ، أما بعد فيا عباد الله : إننا لا نستغرب هذا
الحدث الكوني فالمطر ينزل والسيول تأتي ، والرياح تهبُّ على أي مكان في العالم ، وإنما
نستغرب ذلكم الإهمال والتقصير ، في صيانة هذه السدود ، التي انهارت ولم تصمد في وجه
هذه السيول الجارفة ، لِتُخَلِّفَ هذهِ المأساة العظيمة ، وذلك نظراً لعدم
الاهتمام بها ، فأين تجهيزُ الْبُنَى التَّحْتِيَّةَ وتصريف مياه الأمطار ، فهذا الإهمال
أودى بحياة الكثير من سكان هذه المدينة وما حولها من المدن ، ولا نقول إلا الله المستعان
، وعليه الثكلان !! فليس هذا وقت التلاوم وتبادل الاتهامات ، بل المطلوب هو الاعتبار
والتصحيح ، ومراقبة الله عز وجل وحده لا غيره ، والإخلاص في القول والعمل، إنَّ المطلوب
هو المعالجة الجادة والمحاسبة الصارمة لكل مسئولٍ يقصر أو يهمل في ما تحمَّلَ من
أمانةٍ مُلْقَاةٍ على عاتقه ، والتَّي يَقُولُ الله عز وجل عنها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ﴾([11]).
ويقول سبحانه : ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾([12]).
والخيانة من أعظم خصال المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ
إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »([13])..
فعلى المسئولين أن يراعوا الله فيما يوكل لهم من أعمال ، في تطوير وإمكانيات المدن
والقرى لتلافي مثل هذه الكوارث مستقبلا . إنها دعوة تتكرر إلى سرعة تصحيح الأوضاع،
فالمطر في أصله رحمة بالعباد، ولكن الخطأ في البشر ، وفي عدم إيجاد الحلول وعدم توقع
المفاجآت .
وإننا إخوة الإيمان : نحتسب من قضوا غرقاً في هذه
الكارثة ، شهداء عند الله عز وجل. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ
الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِى سَبِيلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ »([14]).
فنسأل الله تعالى أن يتقبل ممن قضوا في هذه النازلة ، عنده من في الشهداء ، اللهم وارزقهم
منازل الأبرار والسعداء ، وارفع درجاتِهم وَصَبِّرْ أهاليهم وذويهم يا سميع الدعاء
، اللهم اجبر ضعف إخواننا في درنة ، اللهم أمِّنهم يا رب العالمين، اللهم احفظهم، وكن
لهم عونًا وحفيظًا، اللهم اشفِ مرضاهم، واجبر كسر قلوبهم، ورُدَّ مفقودهم يا رب العالمين
، اللهم اجعل بلدنا ليبيا في حفظك وحرزك وأمانك يا رب العالمين ،
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ، ولمشايخنا ولمعلمينا ، ولمن أوصانا وأوصاكم بصالح الدعاء
، وللمسلمين أجمعين ، اللهم مغفرتك ورحمتك لمن بنواْ هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق
، ولمن يقومون على خدمته ، ولمن عمِلَ فيه صالحاً وإحساناً يا رب العالمين، وصلى
الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . عباد الله :
ليست هناك تعليقات