الدين المعاملة
الدين المعاملة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ،
أَمَرَنَا بِأَحْسَنِ الأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارِكْ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ خيرِ صحْبٍ وَآل ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ العرض
والمآل . أَمَّا بَعْدُ: فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله ، فاتقوا الله عباد الله ﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([1]).
عباد الله: إنَّ دين الإسلام دينٌ كامل ، يُنظم حياة
الأفراد والمجتمعات، وما يكون به استقامة حياتهم في الدنيا، ونجاتِهم في الآخرة ، وكثير
من الناس -اليوم- يظنون أو لسانُ حالهم ينطق بذلك: أنَّ الدِّين صلاة وصيام وزكاة وحج
فقط ، وهذا فهمٌ قاصرٌ لدين الإسلام؛ لذلك تجد انفصالا مقيتاً في تطبيقهم للدين في
حياتهم، فهم يحافظون على أداء العبادات من صلاة وصيام وزكاةٍ وحج وغيرها، بل ويجتهدون
في فعل النوافل ، كالسنن الرواتب وصلاة الضحى ، وصيام الأيام التي يُستحب صيامها ،
وتكرار الحج والعمرة، وهذا كلُّه أمرٌ طيب ؛ لكنك حين تنظر إلى حالهم في التعامل مع
الناس في أسواقهم وفي خصوماتهم وفي جميع شؤون حياتهم ، تجد العجب العُجاب ، غشٌ في
البيع والشراء، وفجور في الخصومة ، وغيبة ونميمةٌ وبغي ، وكذبٌ وزورٌ وبهتان، ونكرانٌ
للجميل، وغدرٌ بالعهود، وحسدٌ وبغضاء، وأذيةٌ للقريب والبعيد، وقطعٌ للأرحام، وعقوق
للوالدين ، وغيابٌ للعدل والإنصاف، وشحٌ وطمع ، وتعاونٌ على الإثم والعدوان؛ أين الإسلام؟
أين الإيمان؟ أين الإحسان؟! هل عرف هؤلاء حقيقة الإسلام ؟ كلاَّ والله ، من هذا حالُهُ
مَا عَرَفَ حقيقةَ دينِ الإسلام ، الذي جاء به خير الأنام عليه الصَّلاة والسلام!.
إنَّ المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام لا
يكذب؛ لأنَّهُ يعلم أن الكذب يهدي إلى الفجور، وأنَّ الفجور يهدي إلى النار.
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام لا يؤذي
جاره؛ لأنَّهُ وَعَى حديث النبي صَلى الله عليه وسلم حين قال: « وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ
، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ » . قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ « الَّذِى لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ »([2]). فالَّذي لا يأمنُ جارُهُ من شرُّهُ ،
يقسم الصادق المصدوق أنَّه لا يؤمن!.
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، لا يَغِشُّ
ولا يخادع ولا يَغْدُر؛ لأنَّهُ يعلم أنَّ هذه الصِّفات ليست من صفات أهل الإسلام ؛
مَرَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ
فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً ، فَقَالَ « مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ
». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ – يعني المطر - قَالَ « أَفَلاَ
جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى
»([3]).
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، لا يَحْسُدُ
أحدا ولا يُبْغض أحدا؛ لأنَّهُ رضي بما قَسَمَ الله له ، ولأنَّهُ يعلم أن الجنة لا
يدخلها إلا المؤمنون المتحابُّون، عن الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم « دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ
وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ
الدِّينَ ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا
، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ
لَكُمْ ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ »([4]).
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، لا يحب
الانتقام من أحد ، ويصفح عن من أساء إليه؛ لأنَّه يرجو ما عند الله، قال الله
تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ ، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾([5])، وقال جل وعلا: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ
لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾([6])، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم- « مَنْ كَظَمَ
غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ
مَا شَاءَ »([7]).
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، يصون لسانه
عن فاحش القول وبذيئه؛ لأنَّ إيمانه بربه وخوفه من غضبه ومقته يمنعه من ذلك ، عَنْ
أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا شَىْءٌ أَثْقَلُ
فِى مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ
لَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِىءَ »([8]). والفحش: كل ما قبح من قول أو فعل.
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، عدلٌ في
حكمه حتى مع من يُبْغِضُهُ، مُنْصِفٌ من نفسه قبل غيره؛ لأنَّهُ يمتثل قول الله
تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ
قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ ، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
أَلاَّ تَعْدِلُواْ ، اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ، وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ
اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([9]). فالمسلم في بيته يعدل بين أولاده، ويعدل بين زوجاته،
وفي عمله يعدل بين من هم تحت يده، يُنْصِفُ الناس من نفسه ، قبل أن يُطالب بالعدل والإنصاف،
ذلك هو المسلم حقا! الْمُؤْمِنُ يقيناً وصدقاَ!.
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام ، يحرص
على حياة إخوانه كما يحرص على حياته ، فلا يُعين على القتل ولا يسفك دماً حراماً ؛
لأنَّه يعلم أنَّ العقوبة شديدة ، والخسارةُ كبيرة ، والعاقبة مُهِينَةٌ ، فَهو
يمتثل قول الله تعالى ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
، فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ، وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ،
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾([10]). ويمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم
« كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »([11]).
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام لا يؤذي
مسلما، ولا يقطع رحما، ولا يسعى بين الناس بالنميمة، بل يسعى للإصلاح والتوفيق بين
الناس ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ »([12]). وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ
رَجُلاً يَنِمُّ الْحَدِيثَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ »([13]). وإنَّما نُهِيَّ عن النَّميمة؛ لأنَّها
تُوغِرُ الصُّدُور، وَتُفَرِّق الْقُلُوب، وَتَحْمِلُ الْأَنْفُسَ على العداوة والبغضاء
والتنازع والاختلاف، وكفى بذلك شرًّا ، وكفى به إثمًا عظيما . والمسلم الذي ما عرف
حقيقة الإسلام ، هو الذي يسعى لِتَحُلَّ اللَّعنةُ على المجتمع ، ويسعى بالنَّميمة
بين المسلمين، ويُشْعِلُ نار العداوة والقطيعة بين الأرحام، والله تعالى يقول: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
، أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾([14]). نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا
وأعمالنا ، وأن يوفقنا إلى ما يحبُّه ويرضاه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد للهِ المعزِّ مَن أطاعه واتَّقاه،
والمذِلِّ لمن خالَف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له لا إلهَ
سواه، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُه ورسوله اصطفاه ربه واجتباه، صلى
الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن
والاه . أما بعد: فيا أيها المسلم المبارك : دين الإسلام ، دينٌ عظيم ، تُؤْجَرُ فيه
على السَّلام، والزيارة والهدية والابتسامة، والكلمة الطيبة، دينُ الإسلام دين الرَّحمة
والرفق والسلام، والأخوة والتعاون على الخير، دين السماحة والصدق والمحبَّة والاجتماع،
دين الرحمة بالصغير، وتوقير الكبير، والعطف على الأيتام والمساكين ، قَالَ صلى الله عليه وسلم « لَيْسَ مِنَّا مَنْ
لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا »([15]). وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:« الرَّاحِمُونَ
يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ
»([16]). فلنتق الله عباد الله ، ولنحرص على
أن نكون من المسلمين الذين عرفوا حقيقة الإسلام ، وطبقوه على أنفسهم وفي تعاملاتهم
، وجعلوه واقعا في حياتهم وفي مجتمعاتهم ، ليفوزوا برضوان الله ومرضاته
. عباد الله صلُّوا على رسول الله ، صلُّوا وسلِّموا على من أمِرْنَا من ربنا بالصلاة والسلام عليه بقوله
سبحانه وتعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([17]). اللهمَّ صَلِّ
وسلِّم وزد وبارك وأكرم وأنعم عَلَى سَيِّدِنَا ونَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وارض اللهم
عن آلهِ وصحْبِهِ وَسَلِّمْ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ الإِخْوَةِ الْمُتَحابِّينَ
فِيكَ ، ومِنَ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى طاعَتِكَ ، وثَبِّتْنا عَلَى الإِيمانِ
، وسَدِّدْ خُطانا نَحْوَ الخَيْرِ يا رحيمُ يا رحْمَان ، اللهم يا بديع السَّموات والارض ، يا ذا
الجلال والاكرام ، نسألك اللهمَّ يا رحمن بجلالك
ونور وجهك ، أن تَحْفَظَنَا وتحفظ بلادَنَا من شر الأشرار ، ومن كيد الفجار، ومن شرِّ
طوارق الليل والنهار ، اللهم إنا نستودعك ليبيا وأهلها ، أَمْنَهَا وَأَمَانَهَا ،
لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا ، أَرْضَهَا وَسَمَاءَهَا ، مَرَافِقَهَا وَمُنْشَآتِهَا ،
فاحفظها يا ربنا واحقن دماءَ أهلها ، اللهم احقن الدِّماء في بلادنا ، اللهم وفقنا
لما فيه الخير لنا ، والأمن والأمان والاستقرار والاطمئنان لبلادنا ، اللهم مَنْ أراد
لبلادنا الخير فأعنه ووفقه وسدده ، ومن أراد لها الشر والتفرق والتمزق فاجعل كيده في
نحره ، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين ، اللهم اجمع على الحق كلمتنا ، ووحد
على الخير صفوفنا ، وانصرنا على من عادنا ، اللَّهُمَّ اغفِرْ للمسلمينَ والمسلماتِ
، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ،إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات
، واشْمَلِ اللَّهُمَّ بعفوِكَ وغفرانِكَ ورحمتِكَ آباءَنَا وأمهاتِنَا، وجميعَ أرحامِنَا
، ومَنْ كانَ لهُ فضلٌ علينَا ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الْمَغْفِرَةَ والثَّوَابَ
لِمَنْ بَنَوا هَذَا الْمَسْجِدَ ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن عمل فيه صالحا وإحسانا يا رب العالمين .
ليست هناك تعليقات