جديد المدونة

الأخلاق وأثرها على المجتمع


الأخلاق وأثرُها على المجتمع
الحمد لله الذي أسَّس دينَه على مَحاسن الأخلاق، ورتَّب للمؤمنين بها مَجامع الوئام والوِفاق، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبْدُه ورسوله، أتَمَّ بِخُلُقِهِ العظيم مكارم الأخلاق ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأكرَمين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عزَّ وجل ، والعمل بوصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القائل« اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ »([1]).
معاشر المسلمين : الأخلاق الفاضلة من الإيمان ، وصفةٌ من صفاتِ أهل الإحسان ، وهي ركيزةٌ أساسية من ركائز هذا الدين ، في بناء الفرد وإصلاح المجتمع، فسلامة المجتمع وقوَّةُ بنيانه ، وَسُمُوِّ مكانتهِ وعزَّةِ أبنائه بتمسكه بفاضل الأخلاق . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ ». »([2]).
صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجِعُهُ
                    فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تَسْتَقِمِ
والنفسُ من خيرِها في خيرِ عافيةٍ
                   والنفسُ من شَرِّها في مَرْتَعٍ وخمِ([3])
كما أنَّ شيوع الانحلال والرذيلة والفساد ، مقرون بنبذ الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
وإذا أصيبَ القوم في أخلاقهم
                           فأقم عليهم مأتمًا وعويلا
عباد الله : المسلمون الأوائل فتحوا بلادًا إسلامية لم تتحرك إليها جيوش، ولم تُزَلْزَلُ بها عروش، ولم يُرفع بها سيف ولا رمح، بل تجارٌ صالحون بحسن أخلاقهم فتحوا هذه البلدان ، فتحوها بالصدق والأمانة وحسن التعامل في البيع والشراء ، فكان فتحًا خُلُقيًا؛ فالعودة العودة  عباد الله:  إلى مكارم الأخلاق ، قولاً وعملاً ودلالةً ومضمونًا، لا سيما وأنَّ البعض زهد فيها، ورحل إلى أخلاق غير المسلمين .
لقد افتقدنا كثيرًا من الأخلاق الحميدة، فأين الحب والوفاء؟! أين الصدق والإخاء مع الفقراء والضعفاء؟! أين العدل مع العمال والأجراء ؟! أين برُّ الوالدين؟! أين حقوق الأقارب والجيران؟! أين معاشرة الناس بالحفاوة والكرمِ والوفاء؟! أين صدق الحديث؟! أين أداء الأمانة؟! أين معاشرة الزوجة بالإكرام والاحترام؟! أين بشاشة الوجه؟! أين طيب الكلام!؟ أين إفشاء السلام؟! وأين، وأين، ؟! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ »([4]).
أيها المسلمون: إنَّ حسن الخلق عبادة، بل إنَّ ثواب بعضه قد يفوق ثواب كثير من العبادات المعروفة ، إنَّ إلقاء السلام عبادة، وعيادة المريض عبادة، وزيارة الأخ في الله عبادة، وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، ومصافحة أخيك صدقة، ومسح رأس اليتيم عبادة، وصلة الرحم عبادة، وإغاثة الملهوف عبادة، وقضاء حوائح الناس عبادة ، ومساعدة المحتاجين عبادة ، فما أعظمها من تجارة ! وما ألذّها من سعادة ! غفل عنها أكثر النَّاس فحرموا نفعها وآثارها، نسأل الله العافية.
أيها المسلمون: تأمّلوا رحمني الله وإيَّاكم في هذا الرجل الذي قد أجهد نفسه في الطاعة، وأسهر ليله في الإنابة، وأظمأ نهاره بالصيام، وتكبّد سفرًا في الحج إلى بيت الله الحرام، فلما وقف بين يدي الجليل المتعال ، فوجئ برصيدٍ هائل من الديون، فقد شتم وسفك وضرب وهتك، فَوُزِّعَتْ حَسَنَاتُ النهار وطاعاتِ الليل سدادًا لتلك الديون في يوم الجزاء والنشور، فهذا عامل مظلوم، وذلك جار له مشتوم ، وذاك ضعيفٌ ماله مأكول، فوقف أمام الجميع بين يدي الجبار العظيم ، وقلبه متألم متأوّه محزون، ليسدد ما عليه من الديون ، هذا وأمثاله يوم القيامة هم المفلسون. فالذي يباشر العبادات ويحرص عليها ، ثمَّ يبادر الناس بالشرِّ ، فيعتدي ويظلم ، فكيف تُرجى له النجاة إذا نُصب الميزان؟! بل قد حذّر الرسول  صلى الله عليه وسلم أمثالهم من النّار ولو جاء بصلاة وصيام وَفَعَلَ الأمور العظام، سَألَ النبيُ صلى الله عليه وسلم  يومًا أصحابه فقال: « أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ »([5]). وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله  إِنَّ فُلاَنَةَ تَذْكُرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِى جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا قَالَ « هِىَ فِى النَّارِ »([6]).
أيها المسلمون : إنَّ من أخطر ما يضرُّ الأخلاق ، ويفسد السُّلوك ويدمّر الفضائل ، حبُّ الدُّنيا، فهو رأس كُلِّ بليّة، من أجلها يغشّ التجار، ومن أجلها يخون الناس الأمانات، بسببِ حبِّ الدنيا تُنكث العهود، وتجحد الحقوق، بسببها تُنْسَى الواجبات، وتستباح المحرمات، من أجل حبِّ الدنيا يَكْذِبُ العباد ويزوّرون، ومن أجلها تداس القيم ويباع الدِّين والشرف والعرض ، قَالَ صلى الله عليه وسلم « بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِى كَافِراً ، وَيُمْسِى مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ »([7]).
عباد الله : إنَّ ميزان الْخُلُقِ لا يتغير مع اختلاف الزمان، فالخير يبقى خيرًا أبدًا، والشر يبقى شرًا أبدًا، والفضيلة تبقى فضيلة إلى يوم القيامة ، فالكذب والخيانة والغدر والظلم والسفور والتبرج مثلاً شر أبدًا، وهو دنس ورذيلة، ولا يتغير في زمن آخر على أنه تقدّم ورقيّ وفضيلة، وإلا اختلّ ميزان الأخلاق، وتعرضنا لسخط العليم الخلاّق ؛ والوفاء بالوعود والانضباط بالمواعيد خير أبدًا، وسيبقى خيرًا إلى يوم القيامة مهما تغير الزمان ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ »([8]). نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من أصحاب هذه الصفات، وأن يوفقنا لأحسن الأعمال والأقوال ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنَا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، إلى يوم الدين. أما بعد: فيا عباد الله : لَقد كان إمامُ الأنبياءِ صلى الله عليه وسلم ، في حُسْنِ الخُلُق ، على القمةِ الشامخةِ، وفوقَ الغايةِ والمُنتهى ، فقد حوى أعظم سيرة ، وأزكى سريرة ، فكان كما قال عنه ربُّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ([9]). فما نصيبُنا نحن إخوة الإيمان من هذه الأخلاق؟! أين مَوْقِعُنَا من هذه الخلال الحميدة، والأفعال الرشيدة؟! لقد أصبحت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ، تراتيل بها يُتغنى، وأورادًا صاحبها يتمنى ، إنَّهُ لَأَمْرٌ يدعو إلى الأسى والحزن لما وصل إليه حال أخلاقنا، والله المستعان .
أحباب المصطفى صلى الله عليه وسلم : إنَّه لا صلاح لحالنا وحال أمتنا ، إلاّ أن ننهل من معين أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لا ينضب، ونقتبس من ثباتِها الذي لا يتذبذب، ونصعد إلى مُثُلِهَا لمن أراد منّا أن يتهذّب ويتأدب، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ([10]). فلنقتد بأخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولْنتخلَّق بأخلاقِ القرآن، ونسيرَ على نهجِ صَحابتِه الكِرام، ولنكن بأخلاقِنا أسوةً لغيرنا؛ لننال السعادةَ في الدارين، ونحظى بمحبة الله ومحبة رسوله ومحبة الخلق . قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا . »([11]). اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت . عباد الله صلُّوا على رسول الله ، صلُّوا وسلِّموا على من أمِرْنا من رَبِّنا بالصلاة والسلامِ عليه بقوله عَزَّ قَائِلاً عليماً ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([12]). اللهم صل وسلم وزد وبارك وأكرم وأنعم على سيدنا ونبينا محمد ، وارض اللهم عن آله وأصحابه أجمعين ، وعن التَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين ، وعنَّا معهم بجودك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين ، اللهم يا مفرِّج الكروب ، ويا كشف الخطوب ، سبب لنا فرجاً قريبا يا لله ، اللهم سبب لنا فرجاً قريباً يا الله ، اللهم ما نحن فيه من ابتلاء فإننا نحتسب أجر صبرنا عِنْدَكَ ، فإن كان بسبب ذنوبنا ، فإنَّا نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم ارزقنا نعمة يعجز عنها شكرنا ، ولا تبتلينا ببلاءٍ يعجز عنه صبرنا ، اللهم وكلناك أمرنا فأنت خير وكيل ، ودبِّر لنا أمرنا فإنا لا نحسن التدبير . اللهم اجعل بلدنا ليبيا  في حفظك وأمانك يا رب العالمين ،  اللهم احقن الدِّماء في بلادنا ، اللهم مُنَّ علينا بالأمان والاطمئنان ، وصلاح الحال والأحوال  ، اللهم أصلح شأننا وشأن بلادنا يارب العالمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ،اللهم مغفرتك ورحمتك ورضوانك لأباءنا وأمَّهاتنا ولأصحاب الحقوق علينا ، ولمن أوصانا وأوصاكم بصالح الدُّعاء ، ولمن بنواْ هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن يقومون على خدمته ، ولمن عمل فيه صالحا وإحساناً يا رب العالمين .



([1]) ارواه الترمذي .
([2]) رواه الترمذي .
([3]) أحمد شوقي: .
([4]) رواه أبو داود .
([5]) رواه مسلم .
([6]) رواه أحمد .
([7]) رواه أحمد .
([8]) رواه البخاري .
([9]) القلم:4 .
([10]) الأحزاب:21 .
([11]) رواه الترمذي .
([12]) الأحزاب56 .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون