جديد المدونة

أخلاقيات المسلم في رمضان


أخلاقيات المسلم في رمضان
الحمد لله الذي خصَّ بالفضل والتَّشريف شهر رمضان، وأنزل فيه القرآن هدًى للناس وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان، وخصَّهُ بالعفو والغفران، واختصَّ من اصطفاه بفضلٍ منه وامتنان، وأيقظ بالوعظِ مَنْ وَفَّقَهُ في هذا الموسم العظيم الشأن ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذُو الفضل والإحسان، وأشهد أنَّ سيِّدَنَا ونبيَّنا محمَّداً عبدهُ ورسوله ، سيد ولد عدنان ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان . أما بعد : فَأُوصِي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله عزَّ وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾([1]).
معاشر المسلمين : بالأمس كنا ننتظر شهر رمضان ، وها نحن اليوم على نهاية ثلثه الأول ، فأيام الخير تمر مرَّ السَّحاب ، فهنيئاً لمن تزود فيها بالتَّقوى ، وأكثر فيها من الطاعات والقربات وصالح الأعمال ، وكفَّ لسانه وبصره وسمعه عن محارم الله ، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ ، وَدَعْ أَذَى الْجَارِ ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صَوْمِكَ ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاء"
والحقيقة يا عباد الله : أنَّ النَّاس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامُه الإمساك عن الأكل والشرب فقط ، إلاَّ أنَّه مرتكب للفواحش ، مُطْلِقٌ بصرَه لما حرَّم الله ، من النظر إلى الحرام ، وبعضهم قد أرخى لِأُذُنُهِ لكي تستمع إلى الفسق والكلام الفاحش ، وبعضهم أطلقَ لِفَمِهِ العنان بالكلام الساقط، والعبارات الرذيلة، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور والكذب ؛ فهل هذا صيامُ من أراد جَنَّةَ الرِّضْوان ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم « رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ »([2]).
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ
               وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
فَحَظِّيَ إِذاً مِنْ صَوْمِيَ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ
               فَإِنْ قُلْتُ: إِنِّي صُمْتُ يَوْمِيَ فَمَا صُمْتُ
عباد الله : من المعروف أنَّ الله سبحانه وتعالى ، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يفرض عبادةً من العبادات أو طاعةً من الطاعات ، إلا لغايةٍ نبيلة وهدف جليل، يَصُبُ في مصلحة العبد، ومصلحة الناس من حوله ، والشعائر الدينية في الإسلام ، لا تقتصر على الجوانب الظاهرة والمادية منها، بل تتعداها إلى مقاصد وغاياتٍ معنويةٍ وروحيةٍ ساميةٍ، إذا تركها المسلم، أَفرغ العبادة من جوهرها، وحوَّلها إلى طقس عشوائي لا معنى ولا قيمة له ، قَالَ سبحانه وتعالى ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾([3]).
فشهر رمضان الكريم مثلا، ليس مجرد طقس يمتنع فيه الفرد عن شهوتَيْ البطن والفرج من طلوع الشمس إلى غروبها، بل هو أيضا مناسبة يلتزم فيها المسلم بالسلوكيات الحسنة والمعاملات الطيبة، ويمتنع فيها عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كي يَحْسُنَ صومه ويَثْبُتَ أجره ، فالغاية من الصيام تتعدى الإحساس المادي بالجوع والعطش وغيرهما، إلى الإدراك الروحي لنعم الله وأفضاله، والإحساس المعنوي بآلام الآخرين ومعاناتهم، وهمومهم ومشاكلهم.
والمسلم الحقيقي هو الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة، إلى ممارسة عبادة الصوم بجوانبها المادية والروحية معاً، وَجَعْلِهَا بمثابةِ تدريبٍ سنوي ، لتحسين أخلاقه والرقي بسلوكه في مختلف جوانب الحياة، بالشَّكْل الذي يتلاءم مع الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: « لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلاَ بِلَعَّانٍ ، وَلاَ بِالْفَاحِشِ الْبَذِىءِ »([4]). فالمؤمن الحق في رمضان -وفي غير رمضان - لا يطعن في الناس وأعراضهم، ولا يلقي باللعنات هنا وهناك، ولا تصدر عنه الفواحش والبذاءة ، وغيرها من السلوكيات المشينة والتصرفات الدنيئة.
والمسلم الحق في الأيام العادية - وفي شهر رمضان على الخصوص، لا يتحدث إلا بالصدق، ولا ينطق إلا بالخير، ولا ينقاد للممارسات المنبوذة ، كالكذب والخداع، وخيانة الأمانة، وشهادة الزور وغيرها، فقد جاء في الحديث الشريف عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قوله: « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ »([5]). أي من صام ولم يترك الكذب والعمل به فلا قيمة لصيامه.
والمسلم الحق أيضا، هو الذي يبتعد أثناء الصوم عن اللغو في القول، والفُحش في الكلام، ويتجنّب الرفث والفسق، فلا يترك الطعامَ والشراب ويأكل بالغيبة والنميمة لحومَ إخوانه، وَيُضَيِّع وقته في مجالس السوء ، ولا تَضْعُفُ نفسه أمام شهوات الحياة المادية والمعنوية، ولا يدفعُهُ سُوءُ أدب الآخرين معه ، واستفزازهم له بالقول والعمل، إلى التَّفَوُّهَ بالكلام الفاحش معهم ، والتلفظ بالعبارات البذيئة تجاههم، وبذلك يتحقق المقصد السَّامي للصوم، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:« لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشَّرْبِ فَقَطْ. إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ. فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَقَلْ : إِنِّى صَائِمٌ »([6]).
والمسلم الحق أيضا، هو الذي لا يتأثر أثناء الصوم بانقطاعه عن الأكل والشرب والشهوات الأخرى، فلا تضعفُ هِمَّتُهُ ولا تَخْفُتُ عزيمته، فتراه هادئ النفس مطمئن البال، متحكما في أعصابه، كاتماً لغضبه، كاظماً لغيظه، فلا يصرخ في وجوه الناس ولا يخاصمهم، ولا يرفع صوته في وجوههم ولا يتوعَّدهم، بغض النظر عن الأسباب والظروف، تماشيا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : « . إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ . »([7]). نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق ولأحسن الأقوال والأعمال. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.  
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه وإخوانه. أمّا بعد: فيا عباد الله : من خلال هذه السلوكيات وغيرها، يمكن اعتبارُ شهرِ رمضان بمثابة ورشةِ تدريبٍ في الأخلاق الحميدة والسلوكيات الراقية ؛ فإذا استغلَّها المسلم كما يجب، استقامت شخصيته وانسجمت مع ذاتها ودينها ومحيطها في وحدة متآلفة، لا مكان للتصنع والرِّياء فيها ، ليشكل المسلم بذلك، نموذجا يحتذى به في التوفيق بين العبادة والسلوك ، في رمضان وفي غير رمضان، وبذلك يصلح صومه، ويَثْبُت أجره قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال الله عزَّ وجل « كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى ، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ. »([8]).
فالصيام الحقُّ إخوة الإيمان : يجعل المسلمَ أوسع صدرًا ، وأندى لسانًا ، وأبعدَ عن المخاصمة والشرّ، وإذا رأى زلّةً احتملها، وإنْ وجدَ إساءةً صبر عليها، ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾([9]). اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الصابرين ، وَحسِّن أخلاقنا يا رب العالمين . عباد الله صلُّوا على رسول الله ، صلوا وسلموا على من أمرنا من ربِّنا بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([10]). اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وارض اللهم عن آله وأصحابه أجمعين وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، اللهم اجعل بلدنا ليبيا أَمْناً وأمانا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين  يا رب العالمين ، اللهم أصلح أحوالنا ، وأحوال بلادنا  ومجتمعاتنا ، اللهم أحقن الدماء في بلادنا ، اللهم صن أعراضنا وأموالنا ودماءنا يا رب العالمين ، اللهم تقبل منا الصيام والقيام ، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم لك الحمد على أن بلغتنا شهر رمضان ، اللهم فأعنا على صيامه وقيامه يا رب العالمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، اللهم مغفرتك ورضوانك لآبائنا وأمهاتنا ولأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا يا رب العالمين ، ولمن بنوا هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ولمن عمل فيه صالحاً وإحسانا يا رب العالمين .


([1]) الأحزاب 70 ، 71 .
([2]) رواه البيهقي .
([3]) المائدة27 .
([4]) رواه أحمد .
([5]) رواه البخاري .
([6]) رواه البيهقي .
([7]) النسائي  .
([8]) رواه بن ماجة .
([9]) الزمر:10 .
([10]) الأحزاب56 .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون