الإسلام وحسن المعاملة
الإسلام وحسن المعاملة
الحمد
لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ، ولا عُدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، أرسلَ رسولَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالَمين،
ومثلاً كاملاً وَأُسْوَةً حسنةً للمؤمنين، وحُجَّةً على خَلقِه أجمعين ، وأشهدُ أنَّ
سيِّدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله، الرؤوف بالمؤمنين، المبعوثِ بمكارمِ الأخلاق
للنَّاس أجمعين ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ
إلى يوم الدِّين ، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فَأُوصِي نفسي وإيَّاكم بتقوى
الله ، ففيها النَّجاةُ يومَ الْعَرْضِ عَلَى الله ، لمن أتى بحقِّهَا ولزم طريقها
﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾([1]).
إخوة الإيمان :
يعيش الكثير من المسلمين اليوم ، ازدواجيةً لا يقبلها الإسلام! فهم مسلمون في العبادات،
لكنهم في المعاملات - إلا من رحم الله - بعيدون عن ما نصَّ عليه القرءان الكريم، والسنَّةُ
النبوية المطهرة ، مع أن المفروض والمطلوب ، أن ينطلق المسلمُ من محراب العبادة والطاعة والمناجاة والذِّكر لله تعالى، إلى محراب الحياة
وميدانها ليتعامل مَعَ الْخَلْقِ بحسنِ الخُلُق، ويتبادل معهم المصالح والمنافع بدافع
الرغبة في الأفضل، وليس هناك أفضلِيَّةٌ بين بني البشر، إلا بما تحمل قلوبهم من التقوى
والخير ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ، وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾([2]).
فكان من لوازم التمسك والالتزام بتعاليم الدين،
حسن التعامل مع الخلق الذي يُصْبح عنوانا للملتزم به .
وقد
ينجحُ المُسلمَ في مجال العبادات ، من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍّ ويُتقنها، ولكنَّه
يَسْقُطُ في معاملة الخلق، وهذا دليلٌ على
ضَعْفٍ في الإيمان ، مما يُؤدي إلى الرُّسوب في امتحان يوم القيامة، يوم يُعَزُّ المرءُ
أو يُهان .
سأل
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجلٍ ما إذا كان أحد الحاضرين يعرفه ؟ فقام رجلٌ وقال : أنا أعرفه يا أمير المؤمنين ،
فقال عمر: أَأَنْت جَارُه الأَدْنَى فالجار أعلم النَّاس بخلقِ جيرانه ؟ فقال الرجل
: ﻻ ! فقال عمر : إِذَن فَقَد رَافَقَتْه فِي سَفَر؟ فالأسفار مُكْشِفَةٌ للطباع ؟ فقال الرجل : ﻻ ! فقال عمر: فَلَعَلَّك تَاجَرْتَ مَعَهُ فَعَامَلْتَه
بِالدِّرهْم وَالْدِّيْنَار، فَالدِّرهْم وَالْدِّيْنَارُ يكشفان معادنَ الرجال ؟ فقال
الرجل : ﻻ ! فقال عمر : إِذَن فَلَعَلَّك أَبْصَرْتَه فِي الْمَسْجِد يَرْفَعُ رَأْسَه
تَارَةً وَيَخْفِضُه تَارَة ؟ فقال الرجل:
نَعَمْ ! فقال عمر : اذْهَب فَإِنَّك لا تَعْرِفُه"
.
لقد
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يعرف أنَّ المرءَ مِنَ الْمُمْكِنِ أن يخلع دينه
على عتبة المسجد ، ثم ينتعل حذاءه ويخرجُ لِلدُّنْيَا
مَسْعُورا ، يأكل مال هذا ، وينهش عرض ذاك ، ويعتدي على هذا ويقتل آخر ، ويُخرِّبُ
ويُدمِّر ويُفْسِدُ ! كان عمر رضي الله عنه ، يؤمن أنَّ التَّدينَ الَّذِي لاَ يَنْعَكِسُ
أَثَراً في السُّلُوكِ ، هُوَ تَدَيُّنٌ أَجْوَف
.
فالتعامل
مع الآخرين هو محكُّ التَّدَيُنِ الصحيح ،
إذا لم يلحظ الناس ، الفرقَ بين التاجر المُتديِّن والتاجر غير المتديِّن ، فما فائدة
التَّدَيُّن إذاً ! وإذا لم تلحظ الزَّوجة الفرق بين الزوجِ المتديِّن ، والزوجِ غير
المتديِّن فما قيمة هذا التَّدَيُّن ، والعكسُ
بالعكس ! وإذا لم يلحظ الأبوان الفرق بين بر
الولد المتديِّن وغير المتديِّن ، فلماذا هذا التَّديُّن؟
لقد
جعل عمرُ رضي الله عنه المعاملةَ معياراً للالتزام بالدِّين، فالصلاة: ليست مجرد حركات،
ولكنَّها عبادةٌ مثمرة للحق والصدق ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
﴾([3]).
، والزكاة، ليست ضريبة مالية ، ولكنها وسيلةٌ وعبادة لتطهير المال وتنميته وتزكيةِ
النُّفوس ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
﴾([4]).
والصومُ ليس مجرد جوع وعطش، بل الغاية منه
أن يرتقي المسلم في درجات التَّقوى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ ، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
﴾([5]).
وفي الحديث: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ
فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ »([6]).
والحجُّ ليس سياحة، بل هو عبادة روحية وبدنية ومالية ، لاستكمال الأركان لمن استطاع
﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
﴾([7]).
وقد
يُخطئ الكثيرون ، ممن ثَقُلتْ عليهم العباداتُ فتركوها ، بدعوى أنَّ الإيمانَ في القلب،
وهم مخطئون بنفسِ درجةِ من يتعبد ويسيء المعاملة، وهذان الصنفان على ضلال ، ولنا في
هاتين المرأتين عبرة: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلاَنَةَ تَذْكُرُ مِنْ
كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِى جِيرَانَهاَ
بِلِسَانِهَا قَالَ « هِيَ فِي النَّارِ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلاَنَةَ
تَذْكُرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ
باِلأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلاَ تُؤْذِى جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ « هِيَ
فِي الْجَنَّةِ »([8]).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وأن يزين أخلاقنا ويكسونا حلة
الإيمان إلى يوم نلقاه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من
كل ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم .
الخُطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم
وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين . أما بعد فيا إخوة
الإيمان : إنَّ الإسلام الذي انتشر بين الْعَالَمِينَ في القارات الخمس، ما كان له
أن يحظى بذلك التوسع والانتشار - بعد فضل الله تعالى- لو لم يكن الحاملون لدعوته ،
مجسدين لتعاليمه عبادة ومعاملة ، سواء كانوا علماء أو مجاهدين
أو تجارا، أو مسافرين ، وكم نحن اليوم في حاجة إلى نماذج من المسلمين ، يجمَعُون
بين إتقان العبادات، وحُسْن المعاملات ، ولكن واقعنا اليوم ينبئنا بغير ذلك ، نذهب
إلى المسجد لإقامة الصلاة المفروضة ، وما أن نفرغ من الصلاة ونستعد للخروج، إذا بأشخاص
يفقدون أحذيتهم ونكتشف أنها سُرقت، ونحن إذ نذهب إلى السوق ونشتري حاجياتنا من الخضار
والفاكهة ، تجد صاحب المحل يغش في الميزان ، أو يضع لك جزء منها مغشوشة ، وما إن تصل
إلى البيت تكتشف أنها مغشوشة أو منقوصة الوزن ، تذهب إلى أي مرفق حكومي أو خدمي لتقضي
معاملتك ، ولن تسطيع قضاءها إلا إذا دفعت رشوة لكل من له صلة بإنجاز المعاملة ،
وغيرها من التناقضات ولا يسع المجال لذكرها ، فماذا يعني ذلك؟ يعني أن المجتمع يعيش
أزمة أخلاقية ، إننا أمام أزمة أخلاقية كبيرة ، وأن كثيراً من الناس - إلا من رحم
الله - قد فقدوا الكثير من مبادئهم وأخلاقياتهم ، واستبدلوا الماديات بالأخلاق ،وباعوا
ضمائرهم لشهواتهم ورغباتهم، لقد انتشر الفساد وغابت عن المجتمع الكثير من
الأخلاقيات الحميدة ، وَمِنْ هنا لابد لنا من إعادة النظر في سلوكنا ، وإعادة تصحيح
مسار حياتنا ، ولنبدأ بأطفالنا وشبابنا ، ونغرس فيهم القيم والأخلاق الحميدة ، حتى
تترسخ في عقولهم ونفوسهم ، وتصبح ثقافةً عندهم ، فنحن قدوتهم ومثلهم الذي يستمدون
منه أخلاقهم ومبادئهم وثقافتهم ، فإن كنا صالحين مصلحين فسيكونون مثلنا ، وإن كنا
غير ذلك فلا نلومَ إلا أنفسنا ، يقول اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الحديث
القدسي« يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ
إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ
فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ »([9]).
نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأفعال، وأن يصرف عنا سيئها لا
يصرف عنا سيئها إلا هو ،، عباد الله صلُّوا على رسول الله ، صلُّوا وسلِّموا على
من أمِرْنا من رَبِّنا بالصلاة والسلامِ عليه بقوله عَزَّ قَائِلاً عليماً ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([10]).
اللهم صل وسلم وزد وبارك وأنعم وأكرم على سيدنا ونبينا محمد ، وارض اللهم عن آله
وأصحابه أجمعين ، وعن التَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين ، وعنَّا معهم بجودك
وكرمك وإحسانك يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ انْشُرِ الأمن والاِسْتِقْرَارَ وَالسَّلاَمَ
فِي بلادنا وَبُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ احْفَظْ بلدنا ليبيا مِنَ الْفِتَنِ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَمْنن عَلَيْهَا الأَمْنَ وَالأَمَانَ يَا رَبَّ
الْعَالَمِينَ ، اللهم أصلح أحوالنا وأعمالنا وأقوالنا ، وسريرتنا وعلانيتنا ،
وأصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا ، واهد قلوبنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم
بالباقيات الصَّالحات أعمالنا ، وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، ولمن أسَّسُوا هذا المسجد
ولمن يقومون على خدمته ، ولمن عمل فيه صالحا وإحسانا يارب العالمين .
ليست هناك تعليقات