المسجد الأقصى مكانته وفضله
المسجد
الأقصى مكانته وفضله
الحمد
لله الذي جعل المساجدَ في الأرضِ راحةً للمؤمنين، ومحراباً للعابدين، ومأوى للمتقين
؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينصر عباده المسلمين المناضلين ، وَيُؤَيِّدُ
بِمَعُونَتِهِ من يُدَافِعُ عن مقدساتهِ من المؤمنين ؛ وأشهدُ أنَّ سيِّدَنَا
ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله، الذي جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، صلى الله
وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد: فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله
، فاتَّقوا الله تعالى وراقبُوه، وأطيعُوا أَمْرَهُ ولا تَعْصُوهُ، وَمَا اسْتُجْلِبَت
الخيراتُ إلا بالطَّاعة، وما مُحِقَتْ الأحْوالُ إلا بالمعاصي والذُّنوب، وَإِنَّ العبدَ
ليُحْرَمُ الرِّزقَ بالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ ، وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾([1]).
معاشر المسلمين: خلق الله الكائناتِ كُلِّهَا، وَفَضَّلَ
بَعْضَهَا على بعض، ففضَّلَ بعض الرُّسُلِ على بعض ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ﴾([2])
وفضَّلَ بعض الأماكن على بعض ، فأفضلُ البقاعِ المساجد، وأفضلُ المساجدِ ثلاثة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لاَ
تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى »([3]).
إنَّ
هذه المساجدَ الثلاثة ، تهوى إليها النُّفوس، وتتشوقُ إليها القلوب، وتهفُوا لمشاهدتها
الْعُيُون، لما فيها من البركة ومِنَ الأجر العظيم لمن جاءها، وإنَّ المسلم يتمكن الآن
من زيارة مسجدينِ من هذه المساجد، المسجد الحرام بمكة المكرمة ، ومسجد الرسول صلى
الله عليه وسلم بالمدينة المنوَّرة ، فيُؤَدِّي فيهما عبادته لربِّه آمناً مطمئناً
؛ أما المسجد الثالث وهو المسجد الأقصى ، فلا يتمكن المسلم من الإتيان إليه والصلاةِ
فيه، لأنَّ هناك عصابةَ اليهودِ الْمُجْرِمة ، مُمْسِكَةً بزمامِ أَمْرِه، باسطةً سيادتها
عليه، تقيمُ سدّاً منيعاً يحول بين المسلم والوصول إليه ، والتَّنَسُّكَ فيه.
إنَّ
المسجدَ الأقْصى إخوة الإيمان : أحد المساجد الثلاثةِ المباركة، من أتاه فصلَّى فيه
ظفر بمغفرةِ ذنوبه، ومضاعفة أجره ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم « لَمَّا فَرَغَ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا
، حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ ، وَمُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَلاَّ
يَأْتِىَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فِيهِ ، إِلاَّ خَرَجَ
مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ». فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
« أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِىَ الثَّالِثَةَ
»([4]).
وقال صلي الله عليه وسلم « الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ
صَلَاةٍ ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ »([5]).
إخوة الإسلام : إنَّ المسجد الأقصى والقدس أمانة في أعناقنا
، سلمهما لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ، حين أُسْرِىَ بهِ من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى ، قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ، الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾([6]).
ثم أكَّدَ أهمية هذا المكان، ومسئولية المسلمين من بعده نَحْوَهُ ، حين أَعَدَّ جيش
مؤتة وتبوك نحو الشَّام لمحاربة الرُّوم، وتطهير هذه البقعة المقدسة من دنس شركهم،
ثم أكمل المسيرة من بعده أمير المؤمنين عمرُ بْنَ الخطاب رضي الله عنه ، ففي السَّنَةِ
الْخَامِسَةِ عَشَرَ للهجرة ؛ دخل المسلمون بيت المقدس ، وقال البطارقة لا نُسلِّم
مفاتيح بيت المقدس إلا للخليفة عمر بن الخطاب ؛ فإنا نجد صفتَهُ في الكتب المقدسة .
وجاء عمر رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى فلسطين، وتسلَّم مفاتيحَ بيت المقدس
، تسلُّماً شريفاً في قصةٍ تُكْتَبُ تفاصيلها بمداد النُّور، وأشرف على مدينة القدس
من (جبل المكبِّر) حيث كبَّر وكبَّرَ معه المسلمون ، جاء عمر رضي الله عنه ، على جملٍ
أحمر يتعاقبه هو وغلامه، وأقبل وغلامهُ هُو الراكب ، وعمرٌ آخذٌ بخطام البعير، ومرَّ
على مخاضةٍ من ماءٍ وطين فخلع خُفَّيْهِ فأمسكهما بيد، وأمسكَ خِطَامَ البعير باليد
الأخرى . فاستقبله أبو عبيدة معاتباً يقول: "لقد فعلت شيئاً عظيماً أمام أهل الأرض"،
فدفعه عمر بيده في صدره وقال: "لو غيرك قالها ياأبا عبيدة! فقد كنتم أذلَّ النَّاس؛
فأعزَّكُم الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلنا الله". هذا هو
الطريق إلى فلسطين، دخل عمر بعزَّة الإسلام في يومٍ من أيام الله ، وما إن دخل بيت
المقدس حتى توجَّه إلى المسجد الأقصى فصلى فيه ، وحوله قَادَةُ جنده ؛ ولقد كتب التاريخ
-بما لا مراء فيه-: أنَّه لم يَهْدِمَ صومعةً، ولا كنيسةً، ولا معبدًا، ولا داراَ،
بل تركَ لِلنَّاسِ دُورَ عبادتهم، وكتب لأهل البلد عهداً وأماناً وأشهد عليه.
وبذلك
أصبحت القدس تستظل بظل الإسلام، وفي حماية الله ثم حماية الأمَّة المسلمة، ثم ضعفت
شوكة المسلمين بسبب تطلعهم إلى الدُّنيا ، وتفريطهم في دينهم، فسيطر عليه الصليبيون
ما يَقْرُبُ من مائة عام ، حتى قَيَّضَ الله لإنقاذه بطلاً شُجاعاً، مؤمناً صادقاً
هو صلاح الدِّين الأيوبي، الذي أرجع إلى هذا المسجد حريته ومكانته ؛ ولكن لم يستمر
هذا الأمر حتى جاءت الصليبية الحديثة الثانية، التي مكَّنَت اليهود من الاستيطان في
فلسطين، وشدت من أزرهم حتى أقامت دولة إسرائيل، وأصبحت القدس والأرض المباركة كلها
في قبضة اليهود الصهاينة.
أيها المسلمون:
إنَّ المسجد الأقصى ، مسرى رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأولى القبلتين وثالث الحرمين،
ينادينا لإنقاذه من عبث العابثين، وفساد المفسدين، يهود بني إسرائيل الذين لم يهنأ
لهم بال، ولن تلن لهم قناة حتى يُزَالَ
هذا المسجد من أرض الواقع، فها نحن نراهم بين فترة وأخرى ، يُحْدِثُونَ فيه خللاً بالحفر
من حوله مرةً ، ومن تحته أخرى، كل هذا من أجل أن يتعرض للانهيار والسقوط .
معشر المسلمين:
كيف يهدأ لنا بال، ويسكن لنا فؤاد، والمسجد الأقصى أسيرٌ في يد اليهود، تعيث فيه فساداً،
وتتربص الدوائر بمن يدخله من المسلمين المجاورين له، لقد مكَّنت إسرائيل اليهود من
السُّكْنَى بجواره ، فأقامت لهم المستوطنات، ومكَّنَتهم من دخوله بحجة السِّيَاحة،
وطردت المسلمين العرب من ديارهم التي تُجَاوِرُ الحرم، وصادرت الأراضي الوقفية وأملاك
المسلمين، وهدمت العمائر الإسلامية ، كل هذا
لكي تبرهن على أن القدس عاصمة إسرائيل الأزلية، محاولة تغيير حقائق التاريخ، وتبذل
أقصى ما يمكن من أجل ذلك، فتشجع اليهود على السكنى بجوار المسجد الأقصى، وتطلب من الدول
نَقْلَ سفاراتها إلى القدس ، لتكون القدس عاصمةً لها، وآخرها ما قام به الرئيس
الأمريكي ، من إصدار قرارٍ بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشريف .
أيها المسلمون: إنَّ
المؤامرة على المسجد الأقصى، مسرى رسول الله صلي الله عليه وسلم حقيقة واقعة، تتسارع
خطواتها يوماً بعد يوم بل لحظة بعد لحظة ، فواجب على المسلمين أن يهبوا حكومات وشعوباً
لفك قيد هذا المسجد الأسير من يد اليهود ، نسأل الله تعالى أن يعجِّل بخلاص المسجد
الأقصى وأرض فلسطين من المحتلين الغاصبين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، أقول قولي هذا
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم
.
الخطبة
الثانية
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله،
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
. أما بعد فيا عباد الله : إنَّ الواجب المتحتم على المسلمين أجمعين ، في زمن الجد
والصراع؛ هو اليقظة والاجتماع، والعمل الجاد، والائتلاف وترك الخلاف. فلا يليق بأمة
الإسلام أن تغرق في الخلافات ، والتمزق والتشتت والتفرق فيما بينها ، يقول سبحانه
وتعالى ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾([7]).
يجب على كلِّ المسلمين ، أن يقدموا مصالح الأمة الكبرى ، على كل مصلحة فرعية، أو
خلافات جانبية ، وأن يبادروا بطرح الخلافات، وأن يتوحدوا في وجه الأزمات ، ويعتصموا
بحبل الله ولا يتفرقوا ، فربنا تبارك وتعالى أمرهم بذلك قائلاً : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾([8])..
فلن ننجح ما دمنا مختلفين، ولن ننتصر إن كنا متفرقين: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى
اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾([9]).
نسأل الله تعال أن يبلغنا اليوم الذى نرى فيه المسلمين متحدين متعاونين ، ونرى فيه
المسجد الأقصى حراً طليقاً، نقيم فيه الصلاة ، ويؤُمُّهُ المسلمون من كل حدب وصوب .
إنَّه سميعٌ قريبٌ مجيب الدُّعاء ..
ليست هناك تعليقات