جديد المدونة

الهجرة دروس وعبر 2

الموضوع :  الهجرة دروس وعبر 2
الحمدُ للهِ الذي علَّمَ بالقلمِ، علَّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه على ما يسَّرَ وأنعمَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ذو الإِنْعَامِ والكرَمِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه المغفورُ له ما تأخَّرَ مِنْ ذنبِه وما تقدَّمَ، بدَّدَ ظُلماتِ الْجَاهِلِيَّةِ بنورِ الوحيِ وعلَّمَ ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارك عليهِ ، وعلى آلهِ وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدِّينِ . أمّا بعدُ: فأُوصي ونفسِي وإيَّاكم بتقوَى اللهِ الكريمِ، والتَّمَسُّكِ بدينهِ القويمِ ، وصراطِ نبيِّهِ المستقيمِ ، لتنالوا السَّعَادةَ والرضوانَ والنَّعِيمَ ، يقولُ اللهُ سبحانَه: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾[[1]].
معاشر المسلمين : بمناسبة الهجرة النبوية المباركة ، تحدثنا في الجمعة الماضية ، عن هجراتٍ ينبغي للمسلم أن يهاجر إليها ، وذكرنا هجرتان ، وهما الهجرة من الذنب إلى التوبة ، ومن الكذب إلى الصدق . وها نحن اليومَ بإذن الله نكمل بقية الهجرات .
إخوة الإيمان : وأمَّا الهجرة الثالثة : فلنهاجر من الجهل إلى العلم: هل نحن اليوم أمَّةٌ عالمة أمْ جاهلة ؟ فينا علماء ، وفينا فقهاء ، وفينا مهندسون ، وفينا أطباء ، لكنَّ السِّمة الغالبة هي الجهل ، فالجهل يؤدي إلى القتل ، وها نحن يقتل بعضنا بعضاً، الجهل يؤدي إلى التَّأخر، وها نحن نتقهقر ونتأخر، الجهلُ يؤدي إلى سوءِ الأخلاق ، وها هي الأخلاق السيئة تنتشر فيما بيننا ، الجهل يؤدي إلى المرض والتخلف والفقر ، وانتشارِ كلِّ أنواع الفساد . وَلِنَقْضِي على كُلِّ هذه الأمراض ، فلنهاجر من الجهل إلى العلم ، فقرآننا يقول لنا: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[[2]]. نحن  نقول ونجيب: لا، لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون . لكننا نقولُ هذا بغيرِ وعي ، وإذا نظرنا إلى واقعنا ، وجدنا الغلبةَ للذين لا يعلمون على الذين يعلمون ، ونقول لا عبرة بالعلم، العبرة بالمال ، العبرة بالجاه، العبرة بالمنصب ، العبرة بالقوة ، العبرة بالقبيلة ، الجهلُ أدَّى بنا إلى هذا، إلى أن نعامل النَّاس بمعاييرَ ظالمة ، فهذا الذي لا يمتلك مسؤوليَّةً ولا رتبةً ولا جاهة ، لا أعاملُهُ بنفس الأخلاق ، التي أعامل بها ذاك الإنسانَ الذي يمتلك هذه الأشياء ، والله تعالى يقول ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾[[3]]. ويَقُول عليه الصلاة والسلام « إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ قَالَ « الْقَتْلُ ». »[[4]].
أصبحنا الآن نعيش آثار الجهل الذي ألمَّ بنا منذ فتراتٍ طويلة، تُرى متى الْخُرُوجُ منه ؟! ليس العلم فريضةً على من يَدْخُلِ المدرسة ، وليس العلم فريضةً على من يَلِجُ الجامعة، وليس العلم فريضةً على من يسمَّى طالباً ، وإنَّما العلم فريضة عليك أنت أيها العامل ، عليك أيها الصانع ، عليك أنت أيها المسؤول ، عليك أنت أيها التاجر، عليك أنت أيها العسكري ، عليك أنت أيها الإنسانُ حيثما كنت ، في أيِّ مسؤوليةٍ كنت ، العلم فريضةٌ عليك ، فهل أنت تقوم بهذه الفريضة ، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول « طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .. »[[5]].
تعلمْ فليسَ المرءُ يولدُ عالِماً
                       وليسَ أخو علمٍ كمنْ هُوَ جاهلُ
وإِن كبيرَ القومِ لا علمَ عندَه
                      صَغيرٌ إِذا التفَّتْ عليه الْجحافلُ
وإِن صغيرَ القومِ إِن كانَ عالماً
                       كبيرٌ إِذا رُدَّتْ إِليه المحافلُ([6])
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا ، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ »[[7]].  
الهجرة الرابعةُ: نريد أن نهاجر من التشرذم والتفرق ، إلى الوحدة والتماسك ، كفانا تفرقاً ، كفانا تمزُّقاً ، كفانا شحناً لبعضنا على بعض ، لا بد من أن نوحد صفوفنا ونجمع شتاتنا ، لا بد من تصفية القلوب ، وتنظيف القلوب ، انظر أيها المسلم ، إلى هذا الذي يصلي بجانبك ، انظر إلى قلبك حيال هذا الذي يصلي بجانبك عندما تكونون في مناسبة فرح ، أو مناسبة حزن ، ترى قلبك يحمل عليه ، كما يحمل على كافرٍ مقاتل للإسلام ، وهو يشهد معك أن لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ، وهو يصلي بجانبك ، ويتكلمُ كلامَك ، ويدخل المسجد الذي تدخل ، ويبادلك التحية وتبادله التَّحية ، ولكنَّك تُضْمِرُ تجاهه في قلبك من الْحِقْدِ وَالْكُرْهِ والعداوة ما لا يجوز على غير المسلمين ، فما بالك وهو قريبك أو جارك أو صديقك ؟ ثم بعد ذلك تقول: الحمد لله نحن مسلمون ، وتحمد الله وتشكره ، لكن هذا يتمُّ بلسانك وبوهمك ، ولا يخرج من قلبك ولا من قناعتك ولا من داخلك .
فيا أيها المسلمون جميعاً: أناشدكم الله أن تتذكروا الهجرة بالنوايا الحسنة وبالإخلاص فيها فرسولنا عليه الصلاة والسلام يقول : « لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . »[[8]]. انتهت الهجرة الحركية العبرة بالَّنوايا، انظر نيتك، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ولكن جهاد ، ويقتصر الكلام على الجهاد ، ولكن قال « جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . » النَّية هي التي تحدد العمل ، أوليس الرسول صلى الله عليه وسلم قال « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ »[[9]]. فما نيتك في عملك ؟ وما نيتك في سلامِكَ عليه ؟ وما نيتك عندما تدخل مكانٍ ما، وتقول للناس الحاضرين وفيهم من يحمل قلبك عليه الحقد والضغينة ، وأنت تقول بلسانك من غير نية سليمة ، السَّلام عليكم ؟ انظر كلامك قبل أن تقول لهم ذلك، أنت منافق في كلامك هذا ، وأنت مجامل ، تُظْهِرُ غير مَا تُبْطِنْ ، فَأنت لست صاحب نيَّة طيبة ، وإنما أنت صاحب نية فاسدة ، والأعمال بالنيَّات ، فَسَيُرَدُّ عليك العمل ، حتى ولو كان العملُ الذي عملتَ ظاهره الصلاح، أَمَا وَأَنَّ نِيَّتَهُ غيرُ صالحة فالعمل مردود عليك ، ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾[[10]]. فأعمالنا الصالحة بنياتنا الحسنة يرفعنا الله بها درجات، ويحقق له بها الخير. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وأن يجمِّل ظواهرنا وبواطننا ، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب الدُّعاء . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم  
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين: أما بعد: فلنتق الله عباد الله ، ولنهاجر من سُوءٍ إلى حسن، ومن حسنٍ إلى أحسن ، ولندعو الله أن يجعل كُلَّ يومٍ نستقبله أفضلَ من اليوم الذي نودعه ، من استوى يوماه فهو مغبون، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ وَالأَمَلُ »[[11]]. فليكن حرصنا على طاعة الله ومرضاته ، وأملنا في الفردوس الأعلى ، نسأل الله تعالى أن يبلغنا ذلك ، وأن يردنا إليه بهجرة صادقة من قلوبنا ، نعيها ونفعلها ونعملها إنه ولي ذلك والقادر عليه ،، عباد الله : صلُّوا على رسول الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾[[12]].  اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا ممد وارض اللهم عن آله وأصحابه أجمعين ، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعنا مهعم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل بلدنا ليبيا أمناً وأماناً ، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين ، اللَّهُمَّ ارفع عنا الغلاء والوباء والزنا ، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة ، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وِالْمُؤْمِنَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمعلمينا ولمشايخنا ، ولمن بنواْ هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن عمل فيه صالحاً وإحساناً يا رب العالمين


[1] - مريم: 63 .
[2] - الزمر 9 .
[3] - الحجرات13 .
[4] - رواه البخاري .
[5] - رواه بن ماجة .
[6] - الشافعي .
[7] - بن ماجة .
[8] - رواه البخاري .
[9] - رواه البخاري .
[10] - آل عمران29 .
[11] - رواه أحمد .
[12] - الأحزاب56

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون