الهجرة دروس وعبر (1)
الموضوع
: الهجرة دروس وعبر (1)
الحَمْدُ
للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، سَهَّـلَ لِهِجْرَةِ رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم
المَسَالِكَ، وجَعَلَهَا نُورًا أَضَاءَ الأَمْصَارَ وَالمَمَالِكَ، وَأَشْهَدُ أَن
لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنا
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، خَيْرُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى رَبِّهِ وَامتَثَلَ ،
وَدَعَا إِلَى هَجْرِ المَعَاصِي وَالآثَامِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، صَلى
اللهُ وسلم وبارك عَلَيه ، وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ وَنَصَرُوهُ
، وَاتَّبَعُوهُ وَآزَرُوهُ ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهْـتَدَى بِهَدْيِهِ ، وَاسْـتَنَّ
بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . أما بعد فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله عزَّ
وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ، وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[[1]].
عباد الله :
نعيش هذه الأيام ، اطلالة عامٍ هجريٍ جديد ، يُذكِّرُنا بالهجرة النَّبويَّة المباركة
، هجرةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم ، من مكة إلى المدينة ، فما أحْوجَنَا ونحن نستذكرها ، أن نستخلص
منها الدروس والحكم ، ولعل من بعضِ الحكم ، أنَّ ما أرادهُ أَمِيرُ المؤمنينَ عمر
بن الخطاب رضي الله عنه منك أيُّها المسلم ، عندما ربط التاريخ بالهجرة ، أن تَذْكُرَ
الهجرة في كل يوم ، وأن تُسقط الهجرة على نفسك في كل يوم ، وفي كل حركة ، وفي كل سلوك،
أن تهاجر من السَّيِّءِ إلى الحسن ، ومن الحسن إلى الأحسن . لذلك أدعو نفسي وإياكم
ونحن نستذكرها ، أن لا ننظر إليها هجرةً من مكانٍ إلى مكانٍ فقط ، وإنَّما هي هجرة
عامَّة في كلِّ شيء ، هجرةٌ عَمَّا نَهانا الله عنه ، إلى ما أمرنا الله به ، فنبينا
عليه الصَّلاة والسلام يقول « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ
وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ »[[2]].
ومن خلالِ الحديث عن الهجرة وإسقاطها على واقعنا ، فإنِّي أَحُثُّ نفسي وإيَّاكم بالهجرة في خمسِ مجالات ، أذكرُ اثنتان
منها في هذه الخطبة :
الهجرة الأولى :
أن نهاجر من الذُّنوب إلى التوبة: مَنْ منا لم يُذْنب ؟ حتى في هذا اليوم، هل صليت
الفجر في وقته ؟ هل حفظت لسانَكَ وَيَدَكَ ؟ هل أنت مع زوجتك كما أرادك الإسلامُ أن
تكون ؟ هل أنت مع أمك كما يجب أن تكون ؟ هل أنت بارٌ بوالديك هذا اليوم إن كانا على
قيد الحياة ؟ هل أنت بارٌ بوالديك وقد غادراك إلى الحياةِ الأخرى ؟ هل دعوت لهما هذا
الصباح ؟ هل تحمِلُ في قَلْبِكَ حقداً على أحدٍ هذا اليوم ؟ إذاً أنت في ذنب ، وآن
الأوان بأن نهاجر من الذُّنوب والمعاصي ، إلى الطاعة والتوبة ؟ فنبينا صلى الله
عليه وسلم كان يقول « إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ
مِائَةَ مَرَّةٍ »[[3]].
كان عليه الصلاة والسلام ، في كلِّ لحظةٍ يهاجر، لكنَّ هجرة النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم ، ليست من سوءٍ إلى حسن ، لا، ولكن من حسنٍ إلى الأحسن ، وهكذا دواليك وما
للترقي انتهاء ، أما أنا وأنتم فإنِّي أدعوكم إلى أن نهاجر من السَّيِّءِ إلى الحسن
، ومن الحسن إلى الأحسن.
أيها المسلم :
هل استغفرت ربك اليوم، هل تبت إلى الله ولو لِسَاناً مرةً واحدة ؟ هل قلت يا ربِّ أستغفرك
وأتوب إليك بينك وبين نَفْسِكَ ، بحالٍ مخلصة ، وحال صادقة ؟ فلنكن صريحين ، ما أعتقد
أننا قمنا بذلك ، ربما القليلُ منا فقط فعله ، وربُّنا الرحيم يقول ﴿
وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
﴾[[4]].
فلنهاجر من الذَّنب إلى التوبة، ولنتب إلى الله جلَّ وعلا ، ولنكثر من الاستغفار .
الهجرة الثانية:
أن نهاجر من الكذب إلى الصدق: نحن مجتمعٌ كَثُر فيه اللغط ، وكثر فيه ترديد الكلام
بدون تَثَبُّتٍ ، مجتمعٌ ناقدٌ بامتياز ، أريدك أيها المسلم أن تحصي ما تقول من الصباح
إلى المساء ، كم كلمةٍ صحيحةٍ قُلْتَهَا ، وكم كلمةٍ كاذبةٍ رَدَّدْتَهَا ؟ سواءً أكانَ
هذا الكلامُ حَسَبَ رأيك واعتقادك ، مؤثراً أو غير مؤثر، فسنجدُ أنَّ فِي كلامنا ما
يزيد على النِّصف أو على الثلثين لا معنى له ، ترديدٌ لكلامٍ فارغٍ سمعناه أو
قرأناه لا تُرْتَجَى من ورائهِ أيُّ فائدة
، لغطٌ في لغطٌ ، وربَّما أكثرهُ في الكذب ، أينَ نحن من قول النَّبي صلى الله
عليه وسلم « إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى
الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ
يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَكْذِبُ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا »[[5]].
فانظر يا عبد الله : أين أنت من هذا الحديث ؛ فما دمنا نردد كلاماً لا نعلم مدى
صحته من كذبه ، فستكونُ مساحةُ الصدق عندنا قليلة ، وَسَنُكْتَبُ عند ربنا من
الكاذبين عياذاً بالله من ذلك ، نردد سمعنا وقرأنا ورأينا ، وينقل الكلامَ بعضنا
عن بعض دون تثبتٍ أو تأكد ، إنْ قيل عن إنسانٍ كلمةٍ سيئةٍ ، نشرناها ورددناها
وصدقناها واعتبرناها حقيقةً مئةً بالمائة ، بل وَبَنَيْنَا عليها المواقف ، وقاطعنا
الشخص الذي قيلت فيه ، وهجرناه وابتعدنا عنه ، وإن قيل فيه كلامٌ حسن وجميل ، لم
نصدق ذلك وكذَّبْنَاهُ وَرَدَدْنَاهُ ، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام « كَفَى بِالْمَرْءِ
كَذِبًا ، أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ »[[6]].
إننا اليوم وأمام هذه التقنية ، وهذا الاطلاع الواسع ، عبر شبكات المعلومات ، ومنتديات
التواصل ، ننقلُ عن أناسٍ مجهولين وبأسماءٍ مستعارة ، أخباراً ربما تكون كاذبة
وملفقة وغير صحيحة ، القصد من ورائِها إثارةَ الفتن ، والنَّعرات القبلية
والطائفية والجهوية ، ونبني عليه مواقف والتزامات ، ومصادرُنا من أسماءٍ مستعارة ،
اسمعوا إلى عقوبة الكذَّاب الذي يكذبُ الْكَذْبَةِ فتبلغ الآفاق ، سَأَلَ النَّبي صلى
الله عليه وسلم أصحابه يَوْمًا ، فَقَالَ « هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا »
. قَالُوا لاَ . قَالَ « لَكِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى فَأَخَذَا
بِيَدِى ، فَأَخْرَجَانِى إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ ، وكان مما رآه النَّبي
صلى الله عليه وسلم ، أنَّ هناك رَجُلٌ جَالِسٌ
، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ - يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ
فِى شِدْقِهِ ، حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ
ذَلِكَ ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا ، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ . فقالا للنَّبي
صلى الله عليه وسلم في بيان ذلك : أَنَّ الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ
يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ ، فَيُصْنَعُ
بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . » . فانتبه ، انتبه أيها المسلم لما تقول وما
تردد وما تنقلُ من كلامٍ عن الآخرين ، وأنت لا تعلم مدى صدقه من كذبه ، فيعود عليك
هذا بالعذاب في قبرك إلى يوم القيامة . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
« يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلاَلِ كُلِّهَا إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ
»[[7]].
أسأل الله تعالى أن يحفظنا جميعاً من الخيانة والكذب ، وأن يبعد عنا الشرور والفتن
ما ظهر منها وما بطن ، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله
لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة
الثانية
الحمد
لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وليُّ الصَّالحين ،
وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين ، صلى
الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين..
أما بعدُ: فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله القائل سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾[[8]].
فلنتق الله عباد الله ، ولنحذر الكذب وأهله ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَنَا مطيَّةً
للكاذبين والمخادعين ، فيصدقهم ويعينهم ، وما من شيءٍ أذهبُ للمروءة من الكذب ،
وقد قالت الحكماء مَنِ اسْتَحْلَى رِضَاعَ الْكَذِبِ عَسُرَ فِطَامُهُ :
لاَ يَكْذِبُ الْمَرْءُ إِلَّا مِنْ
مَهَانَتِهِ
أَوْ عَادَةِ السُّوءِ أَوْ مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ
لَعَضُّ جِيفَةِ كَلْبٍ خَيْرُ رَائِحَةٍ
مِنْ كِذْبَةِ الْمَرْءِ فِي جِدٍّ وَفِي لَعِبِ
، فاهجرْ أيها المسلم هذا الْخُلُقَ الذَّميم ، فلا
ينبغي للمسلم أن يكون كذَّاباً ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيَكُونُ
الْمُؤْمِنُ جَبَانًا فَقَالَ « نَعَمْ ». فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً
فَقَالَ « نَعَمْ »[[9]].
فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا فَقَالَ « لاَ ». نسأل الله تعالى
أن يرزقنا الصدق في أقوالنا وأفعالنا ، إنه سميعٌ قريب مجيب الدعاء ، وللموضوع
تتمة في جمعة قادمة إن شاء الله ، عباد الله : صلُّوا على رسول الله ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾[[10]].اللهم
صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا ممد وارض اللهم عن آله وأصحابه أجمعين ، وعن
التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعنا مهعم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم
أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل
بلدنا ليبيا أمناً وأماناً ، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين ، اللَّهُمَّ ارفع
عنا الغلاء والوباء والزنا ، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا
هذا خاصة ، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وِالْمُؤْمِنَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ،
إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمعلمينا ولمشايخنا ، ولمن
بنواْ هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن عمل فيه صالحاً وإحساناً يا رب
العالمين ..
ليست هناك تعليقات