جديد المدونة

إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون

الموضوع :  إنَّا لله وإنَّ ا إليه راجعون  
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله القائل صلى الله عليه وسلم « إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَقُلْ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) »[[1]]. صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد : فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله  ؛ فإنَّ من اتَّقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه . ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾[[2]].
عباد الله : كلمةٌ مباركة ؛ عظيمةٌ خيراتها ، كثيرةٌ عوائدها وفوائدها على عبد الله المؤمن في دنياه وأخراه ، جعلها الله سبحانه وتعالى ملجئاً للمبتلَيْن ، وملاذاً لِلْمُمْتَحَنِين وَمُعْتصَماً لذوي المصائب من عباد الله المؤمنين ؛ إنَّها عباد الله كلمة ﴿ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾[[3]] ، فإنَّ المؤمن إذا أكرمه الله سبحانه وتعالى ، ومنّ عليه عند مُصَابِهِ وَبَلِيَّتِهِ  بنطقها ، مع الاستحضار لمعانيها المباركة ودلالاتها ، وتحقيق مقاصدها ومراميها ، سَكَنَ قَلْبُهُ واطمأنت نفسه ، وهدأ بالُه، وعوَّضَهُ اللهُ جَلَّ وعلاَ في مُصَابِه خيراً .
عباد الله : إِنَّ سُنَّة الله جل وعلا ماضيةٌ في عباده ، بأن يَبْتَلِيهِمْ في هذه الحياة ، بأنواعٍ من الابتلاءات ، وألوانٍ من المحن والرزايا ؛ فيبتلي تارةً بالغنى ، وتارةً بالفقر ، ويبتلي تارةً بالصحة ، وتارةً بالمرض ، وبالسَّراءِ أحياناً وبالضَّراءِ حِيناً آخر ، وما من إنسانٍ إلاَّ وَهْوَ مُعَرَّضٌ للابتلاء ؛ إمَّا بفواتِ مرغوب ، أو حُصُولِ مكروه ، أو زوالِ محبوب ؛ وما مُلئت دارٌ بالفرح ، إلا مُلئت بالحزن ، فكلُّ النَّاس مبتلى ؛ إلا أنَّ المؤمنَ عباد الله:  في كل أحواله من خيرٍ إلى خير ؛ وهو أمرٌ خَصَّ الله جل وعلا به عبده المؤمن ، وفي هذا يقول نبينا عليه الصلاة والسلام : «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[[4]].
عباد الله : وقد أخبَرَ الله جل وعلا عباده في القرآن ، بأنَّهُ مُبْتَلٍ عباده بأنواع الابتلاءات ، ودعاهم جل وعلا في هذا السياق ، إلى الصبر واللُّجوء إلى هذه الكلمة المباركة العظيمة : كلمةِ ﴿ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾[[5]] ، يقول الله تبارك وتعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾[[6]] صلوات ، ورحمة ، واهتداء ؛ ما أعظمها من خيرات ، وما أجلَّها من عوائد وبركات.
إخوة الإيمان : إنَّ المسلم يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، ويعلم أن الأمر كُلَّه لله ، وأن الخلق خلق اللهِ عز وجل ، وأن إلى الله الرُّجْعَى وإليه المنتهى ؛ فهذا الإيمانُ يُحَرِّكُ قَلْبَهُ صبْراً ، ويحركُ لسانه بهذه الكلمة المباركة إقراراً وتسليما ﴿ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾[[7]] وهنا تتحقق البشارة العظيمة والموعود الكبير والفوز العظيم: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾[[8]] أطلق جل وعلا ولم يُقَيِّد ، ليتناول البشارة بكلِ خيرٍ وفضلٍ ، وبركةٍ ونعمةٍ في الدنيا الآخرة ؛ فقوله جل وعلا: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ يتناول البشارة الدُّنْيَوِيَّة والبشارةَ الْأُخْرَوِيَّةَ :
يدلُّ للأول عباد الله: حديث أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْنِي خَيْراً مِنْهَا. إِلاَّ أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَخَلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا »[[9]] ؛ قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِى سَلَمَةَ ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِى فَقُلْتُهَا ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْراً مِنْهَا. قَالَتْ فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ويدل للثاني : قول رسول الله  صلى الله عليه وسلم: « إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِى. فَيَقُولُونَ : نَعَمْ. فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِى ، فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ – أي قالَ : الحمد لله ، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ - فَيَقُولُ اللَّهُ : ابْنُوا لِعَبْدِى بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ »[[10]].
أيها المؤمنون : إنَّ هذه الكلمة العظيمة المباركة ، لابُدَّ عند قولها من استحضار مدلولها ، ومعرفةِ مقصودها ، وتحقيقِ غايتها ومرماها ؛ لَا أَنْ تَجْرِي عَلَى لسانِ العبد دون فهمٍ للمعنى ، أو تحقيقٍ للمقصِدْ ، ومن يتأمل في دلالة هذه الكلمة المباركة ، يجدُ أنَّها اشتملت على أصلين عظيمين ، وأساسين متينين ؛ إذا استحضرهما العبد حال مصابه سلا قلبه واطمأنت نفسه :
الأصل الأول عباد الله: أنْ يستحضر أنه عَبْدٌ للهِ طَوْعُ تدبيره وتسخيره سبحانه ، وأنَّه مملوكٌ لله يتصرف فيه ربُّهُ وخالِقُه وَسَيِّدُه ، كما يشاء ويريد ،لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، وهذا مستفادٌ من قوله : ﴿ إِنَّا لِلَّهِ ﴾ أي نحن مماليك لله طوع تدبيره وتسخيره عزَّ وجل ؛ يعطي ويمنع ، يخفض ويرفع، يقبض ويبسط ، يحيي ويميت يعزُّ ويذل .
الأصل الثاني عباد الله : أن يتذكر العبدُ حَالَ مُصَابِه، أنَّه إلى الله راجع ، وأنه سيقف يوماً بين يدي الله ، وأنَّ الله عزَّ وجل سَيُحَاسِبُهُ وَيَسْأَلُهُ عما قال وقدَّم في هذه الحياة ، وهذا مستفادٌ من قوله: ﴿ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ ، والعاقل إذا تذكر رجوعه إلى الله ، أحسن القول وأحسن العمل ، وابتعد تمام الابتعاد عن الإساءةِ في أقواله أو أعماله .  نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحِبُّهُ ويرضاه من صالح القول والعمل . أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيمِ الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد فيا أيها المؤمنون: إنَّ هذه الكلمة العظيمة المباركة - كلمة ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ يقولها المسلم حال المصاب، ويقولها كذلك : كما ذكر أهل العلم ، إذا تجدد في قلبه ذكر المصاب ، فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها. قالَ صلى الله عليه وسلم « مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلاَ مَسْلِمَةٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ ، فَيَذْكُرُهَا وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا - أَيْ وإن قَدِمَ عَهْدُهَا - فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعاً إِلاَّ جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا »[[11]].  . نسأل الله تعالى أن يجيرنا أجمعين في مصابنا أياً كان ، وأن يخلفنا خيراً ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([12]). اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدِك ورسولِكَ سيدنا محمدٍ ، وارضَ اللهم عن آله وأصحابِهِ أجمعين ، وعن التابعينَ وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعنَّا معَهم بمنِّكَ وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ . اللهم أعزَّ الإسلامَ المسلمينَ ، وأذلَّ الشرك والمشركين ، ودمرْ أعداءَ الدينِ يا رب العالمين ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَ المغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللهم اجعل في قلوبِنا نوراً نهتدي به إليك ، وتولنا بِحُسنِ رعايتِك ، اللهم نَزِّه قلوبَنا عن التعلقِ بمن دونِك ، واجعلنا من قومٍ تحبُهم ويحبونَك ، اللهم اجعلْ بَلدَنا ليبيا آمناً مطمئناً ، سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ ، اللهم اغفر لنا ولولدينا ، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، ولمن بنوا هذا المسجد ولمن أنفق وينفق عليه ولمن عمل فيه صالحا يا رب العالمين ..




[1] - رواه الترمذي .
[2] - الأنفال29 .
[3] - البقرة156 .
[4] - رواه مسلم ..
[5] - البقرة156 .
[6] - البقرة:155-157 .
[7] - البقرة156 .
[8] - البقرة 155 .
[9] - رواه مسلم .
[10] - رواه الترمذي .
[11] - رواه أحمد .
[12] - الأحزاب56 .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون