جديد المدونة

: أخلاق المسلم في رمضان

الموضوع : أخلاق المسلم في رمضان
الحمد لله الذي خص بالفضل والتشريف شهر رمضان، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وخصه بالعفو والغفران، واختص من اصطفاه بفضلٍ منه وامتنان، وأيقظ بالوعظ من وفقه في هذا الموسم العظيم الشأن ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والإحسان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الفلاح والخسران . أما بعد فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فإنها الذخيرة التي تنفع صاحبها، والتجارة التي تُربح طالبها، وهي حُلَّة العزِّ والكرامة، ولباس السعادة والنصر والسيادة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ، وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[[1]].
معاشر المسلمين : في شهر رمضان يتربى المسلم على الكثير من القيم والأخلاق التي تهذب سلوكه، وتصقل شخصيته، وتورثه الذكر الحسن، والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وإنه لينبغي أن نربي أنفسنا على الأخلاق الفاضلة، ونجعلها سلوك نتعامل بها في واقع الحياة . ولعل شهر رمضان وفريضة الصيام ونفحات الرحمن ، فرصة عظيمة لتدريب النفس وتربيتها وتهذيبها، فغاية العبادات في الإسلام ، تربية الروح وتقويم السلوك ، ومعالجة الانحرافات ، وتوثيق الصلة برب الأرض والسماوات ؛ فهل من عزم وإرادة في نفس كل مسلم ومسلمة وصائم وصائمة للقيام بذلك، وقد أمره الله عز وجل بتزكية نفسه، فقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[[2]]. فرمضان شهرٌ للمراجعة والتغيير ، والتربية والتهذيب للنفوس، وهو مدرسة الأخلاق ، يقول صلى الله عليه وسلم: « وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ . »[[3]].
فالصوم يدفع المسلم ، ويوجهه إلى ضبط النَّفس وَالْحِلْمِ، والعفو والصفح والتنازل، ليس على سبيل الجبن والخوف والضعف، ولكن طاعة لله وإتباعٍ لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وطلبٍ للأجر والثواب ؛ فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم . هذا هو خلق الْحِلْمِ ، وهو سيد الأخلاق ، مدحه الله في القرآن، وأمر به ووصف به أنبيائه ، وحثَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلَّقَ به ، وأمر به أصحابه وأمته من بعده إلى يوم القيامة ، وإن من فضائل رمضان وثمراته ، أن يُرَبَّي المسلم على هذه القيم والأخلاق ، فكم دفع الْحِلْمُ عن صاحبه من مشاكل وفتنٍ ومصائب، وكم دفع الْحِلْمُ عن صاحبه من بلايا وشرور، وكم رفع قدر الْحِلْمِ صاحبه بين الناس ، وأورثه الذكر الحسن ، وكم من حسناتٍ ثَقَّلَ الله بها ميزان صاحب الْحِلْمِ ، الذي صبر في ذات الله وكظم غيظه وتفضل على غيره، وقد أمر الله به، فقال سبحانه: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ‌ بِالْعُرْ‌فِ وَأَعْرِ‌ضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾[[4]]، ووصف به عباده فقال: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[[5]]، وقال سبحانه: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُ‌ونَ﴾[[6]].
عباد الله : الحِلْمُ دليل على رباطة الجأش ، وشجاعة النفس ، ودماثة الخلق ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ »[[7]]. قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: { ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حِلْمُكَ، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أَحْسَنْتَ حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى .
أيها الصائمون : إنَّ لِضَعْفِ الْحِلْمِ وسرعة الغضب ، آثاراً خطيرة على المرء نفسه وعلى الآخرين ، من ذلك الإصابة الجسدية والنفسية بأمراضٍ كثيرة ، كالسُكري والضغط والقولون العصبي وقرحة المعدة ، وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص ؛ ومن الآثار أيضا: انتشار المشاكل وكثرة الجرائم ، فكم من جريمةٍ أُزْهِقَتْ فيها الأرواح وسالت الدماء ، بسبب العجلة والغضب وعدم الْحِلْمِ ، وكم ضاع من خير وأجر وفضل ، بسبب قلة الْحِلْمِ وسرعة الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب ذلك ؛ وبسبب لحظات غضب قُطِّعَتْ الأرحام، ووقع الطلاق وَشُرِّدَ الأطفال، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان . وإذا كانت الحاجة تدعو إلى الْحِلْمِ والأناة في كل حال  في هذه الحياة الدنيا، فهي في زمن الشدائد والفتن أحرى وأولى، ففيها تطيش العقول، وتضطرب القلوب، وتختل المواقف، ولا يسعف المرء إلا التثبت والأناة ، والْحِلْمُ والرفق والصبر والمصابرة ، قال صلى الله عليه وسلم: « مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ » [[8]]. وقد مدح الله عز وجل المؤمنين بصفات كثيرة ، منها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[[9]]. نسأل الله تعالى أن يوفقنا ويهدينا لأحسن الأخلاق ، وأن يصرف عنا سيئها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، أقول قولي هذا  واستغفر الله لي ولكم ، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيا عباد الله : ما أحوجنا ونحن نتحدث عن الْحِلْمِ ، إلى حِلْمِ الوالد في بيته، وعلى زوجته وأبنائه ، والرفق واللين معهم ، وَحِلْمِ التاجر في سوقه، ومراعاة إخوانه والسَّماحة في بيعه لهم ، وَحِلْمِ الموظف في إدارته، والصبر على المراجعين ، وخدمتهم ومساعدتهم فيما يسمح به القانون ، وَحِلْمِ الجار مع جيرانه ، وصبرهم على بعض ، وتفقد أحوال بعضهم البعض ، وَحِلْمِ المعلم مع طلابه ، وتنشئتهم على الأخلاق والقيَّم الفاضلة ، وَحِلْمِ الناس في الشوارع واحترام بعضهم ، وعدم التَّسَرُّع في ردَّةِ الفعل على المخطئ منهم ، وكن دائماً أنت أيها المسلم ، الأحسن والأفضل بأخلاقك وَحِلْمُكَ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا »[[10]]. فما معنى حقيقة الصيام ، إذا كان المرء يصوم عن الطعام والشراب ، ولكنَّه لا يصوم عن السباب والفحش والبذاءة باللسان، ولا يصوم عن الغيبة والنميمة والبهتان ، ولا يصوم عن غض البصر عمَّا حرَّم الله ؟!
أهل الخصوص من الصُّوَّامِ صومُهُمُ
                      صونُ اللِّسَانِ عن البهتان والكذبِ
والعارفون وأهل الأنس صومهم
                     صون القلوب عن الأغيار والحجبِ
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصُّوَّام الحقيقيين ، الذين يعرفون للصوم حقَّه وفضله ، بِحِلْمِنَا وطيب أخلاقنا وبحسن تعاملنا ، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه ..عباد الله :  {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }[[11]]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وارض الله عن آله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، وأجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم تقبل منّا صيام شهر رمضان واجعله كفارة لما سبق من ذنوبنا وعصمة فيما بقي من أعمارنا , وارزقنا أعمالا صالحة ترضى بها عنا ياذا الجلال والإكرام ، اللهم منَّ علينا وعلى بلادنا بالأمن والأمان ، والراحة والرخاء والاستقرار والاطمئنان ، اللهم وفق وسدد وأعن كل من يريد الخير لبلادنا يا رب العالمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، اللهم مغفرتك ورضوانك لآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا وأصدقائنا وجيراننا ، ولمن بنو هذا المسجد ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن عمل فيه صالحاً وإحساناً يا رب العالمين .


[1] - آل عمران200 .
[2] - الشمس:9-10 .
[3] - البخاري .
[4] - الأعراف:199 .
[5] - الفرقان:63 .
[6] - الشورى:37 .
[7] - رواه البخاري .
[8] - رواه أبو داود .
[9] - آل عمران:134 .
[10] - رواه البخاري .
[11] - الأحزاب56

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون