جديد المدونة

الوفاء بين الأزواج


الموضوع : الوفاء بين الأزواج

الحمدُ لله جَعَلَ الزِّواجَ مَودَّةً وَرَحمَةً وَسَكَنَاً, أحمده سبحانه وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدهُ لا شَريكَ له، خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنَا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ, وحبيبه وخليله، اختاره واصطفاه وأعطاه خُلُقاً عظيماً، وَسَمَّاهُ رؤوفاً رحيماً، صلوا على الهادي المصطفى فالله قـد صلى عليـه قـديـما ، فصلوا عليه وسلموا تسليما. أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ، وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ، إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }[[1]].

معاشر المسلمين : لازال حديثنا متواصلاً عن الوفاء بالعهود والعقود . والوفاء الذي سنتحدث عنه اليوم ، هو الوفاء بين الزوجين ؛ لأنَّ من أوثق العقود التي يجبُ الوفاءُ بها : عقد النكاح ؛ وشروطه أولى الشروطِ بالوفاء ، وإنَّ من أعظم الوفاء ، وفاءِ الأزواجِ بعضِهم لبعض ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ ، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ »[[2]] .  

ولا يقتصر الالتزام بالشروطِ أيها الأزواج : على الالتزامِ بِأَمْرٍ شَرَطَهُ أحدُ الطرفين على  الآخر حين العقد ، بل يَتَعَدَّاهُ ليشملَ كُلَّ معنىً جميلٍ تَشْمَلُهُ كَلِمَةُ الوفاء ، فهو يشمل تفاصيل الحياة بين الزوجين ؛ ليعيشَ كُلٌّ منهما وهو يحمل في قلبه ، حُبّاً ووُدّاً ورحمة ، وتقديراً وإخلاصاً لا متناهياً تجاه الطرفِ الآخر .

فالوفاء يعني : البذل والعطاء والتضحية والصَّبر ، وذلك بالاهتمامِ بِمَنْ كُنْتَ وفيّاً بِهِ ، والحرصِ عليهِ  وعدمِ التفريطِ فيه ، والخوفِ عليه من الأذى ، ومراعاةِ شعورهِ وأحاسيسه ، وتقديرِ جهوده ،  والشكرِ لصنائعه ، وعدمِ إفشاءِ سِرِّه ، والحفاظِ على خصوصياته ، والعملِ على إسعاده ، والثَّناءِ الْحَسَنِ عليه ، وذكرِ محاسنه ، وتجاهلِ أخطائه ، والذكرى الجميلة لعهده ، وأيامِهِ بعد فراقه .

إِنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ

                            واللؤمُ مقرونٌ بذي الإِخلافِ

 وترى الكريمَ لمنْ يُعاشرُ مُنْصفاً

                          وترى اللَّئيمَ مُجَانبَ الإِنصافِ

فليس مع الوفاء ترصُّد ، ولا تصيُّد ، ولا إساءة ، ولا ظلم ، ولا نكران ، ولا جرح ، ولا قدح ، ولا غيرها من المساوئ.

وهذا الوفاء بمفهومه الشامل الذي أوضحناه ،لا يتحقق إلا إذا كان بناء هذه العلاقة منذ البداية سليماً متيناً  راسخاً ، يقوم على مبادئ ، ويسعى لتحقيق أهداف . قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم « تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ »[[3]] . وقال عليه الصلاة والسلام « إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ »[[4]].  فمن تزوَّجَ للجمال فقط ، تلاشى الوفاء في علاقته عند فقد الجمال ؛ ومن تزوَّج للمال فقط ، ضاع الوفاء مع فقد المال . لكن من كانت الأولوية عنده في هذا العقد والعهد للدِّين والخلق ، مراعياً قول خير البرية صلى الله  عليه وسلم : « فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ» ، وقولُه : « إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ » ، فحريٌّ بهذا أن ينعم بالوفاء والهناء .

أيها الأزواج حفظكم الله : وفاء الزَّوْجِ لزوجته يكون بأداءِ حقوقها، والإحسان إليها، وإكرامها، والاعترافِ بفضلها ومكانتها ، وبالسَّتْرِ عليها وذكر محاسنها وعدم نَشْرِ مساوئها ؛ فهذا سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام  ، من جعله الله تعالى الأسوةَ الحسنة ؛ لنستنير بهديه ونسير على دربه ، يُعَلِّمُنَا الوفاء في مواقف كثيرة ، يصعبُ حَصْرُهَا في خطبةٍ واحدة ؛ أذكر منها ما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها  قَالَتْ : مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم  مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ، يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ –أي صديقاتها- ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِى الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ . فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِى مِنْهَا وَلَدٌ.[[5]].  فصلَّى الله وسلَّم على أكرم الخلق ، وحافظ العهد . فقد كان صلى الله عليه وسلَّم وفيّاً لخديجة في حياتها ، ووفيّاً لها بعد وفاتها ، فهو يذكر أعمالها  وأخلاقها ، وأيامها وعهدها ، رضي الله تعالى عنها .

صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ

                        مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي

تَاللَّهِ مَا حَمَلَتْ أُنْثَى وَلا وَضَعَتْ

                       مِثْلَ النَّبِيِّ الوَفِيِّ الرَّحْمَةِ الهَادِي

وَلا بَرَى اللَّهُ خَلْقًا مِنْ بَرِيَّتِهِ

                         أَوْفَى بِحَقٍّ لأَهْلٍ أَوْ بِمِيعَادِي

إخوة الإيمان : وإن وفاء الزوجة لزوجها يكون بطاعته واحترامه وتقديره، والوقوف إلى جانبه في عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ، وعدمِ نكرانِ فضله وجحود عطائه ، فالأيام دول، فكم من غني أصبح فقيراً؟ وكم من عزيز أصبح ذليلاً؟ وكم من قوي أصبح ضعيفاً؟! فالزوج قد تنزل به المحن والمصائب، فتتحول صِحَتَهُ إلى مرض، ويتحول غناه إلى فقر، وتتحول قوته إلى ضَعْفٍ، وهنا يظهر مَعْدِنُ الزوجةِ الصَّالحة الوفية ، التي تقف إلى جوار زوجها في كل ضيق ومصيبة، تُؤْنِسُهُ وتواسيه، وَتُثَبِّتُهُ، وَتُخْفِي عُيُوبَهُ وَتَسْتُرُ ذُنُوبَهُ، ولا تنسى أيام الغنى وَالسِّعَةَ، وأيام الصِّحَةِ والقوة، وَتُرَدِدُ دوماً قول الله جل وعلا: { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }[[6]]، وتنظر إلى زوجها ، نظرة رحمة وأدب، ونظرة حنان وتواضع، وهي تقول له: أبشرْ أيها الزوج الحبيب! أنا لا أنسى أنك فعلت كذا وكذا وقدمت لي كذا وكذا ثم تُذَكِّرُهُ بقول ربها: { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ } [[7]].

إنَّ مِمَّا يُحَطِّمُ أَيَّ زَوْجٍ ، وَيُقْصِمُ ظَهْرَهُ ، إذَا كان كريماً مع امرأته سخياً في كل شيء، فِي كلٍّ لونٍ من ألوان الحياة، فإذا ما تغيَّرت حاله ، وَتَحوَّلَ الغنى إلى فقر، والقوةُ إلى ضَعْفٍ، والصِّحَةُ إلى مرض ، فإذا بامْرَأَتِهِ هي الأخرى قد تَحَوَّلَتْ مع هذا التَّحَوُّلِ الخطير، فَتَنْسَى وَتَتَنَكَرُ لِكُلِّ صِوَرِ الإحسان! فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضيَّ الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: « أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ ». قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: « يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ ». فاتقوا الله فيما بينكم أيها الأزواجُ ، وانشروا المعروف والإحسان والمحبة والرحمة وَالْوُدَّ ليتحقق السَّكَنُ في بيوتكم ، يقول الله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[[8]] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..  

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ صلى الله وسلم وبارك  عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ: فيا أيها الآباء ويا أيها الأزواج  : انقلوا هذه الأخلاق والفضائل وهذه الحقوق بين الأزواج ، لبيوتكم ، ربُّوا عليها أبناءَكم وبناتِكم ، وانقلوها لزوجاتكم بكل شفافية وصدق ، فالنِّساء هنَّ شقائقُ الرجال ، وهُنَّ السكنُ والحنان ، ونحنَ مطَالَبُون بتنشئتهن لِيَكُنَّ زوجاتٍ وفيَّاتٍ عفيفاتٍ ، مطيعاتٍ كريماتٍ رحيمات صالحاتٍ مصلحاتٍ ، لِيُرَبِينَ أبنائَهُنَّ وبناتهنَّ على هذه الأخلاق الكريمة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ عَالَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ »[[9]].  وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الْجَنَّةَ مِنْ أَىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ »[[10]].

 وأنتم أيها الأزواج المسئولية عليكم كبيرة ، فأنتم الرجال ، ويتعلم منكم أبناءكم وبناتكم ، فأنتم مطالبون بأن تكونوا أوفياء مع زوجاتكم ، أتقياء أمُناء تراعون الله في حُقُوقِهِن ، صَبُورِينَ مُتَسَامِحِينَ في مُعَامَلَتِهِنَّ ، مُلْتَزِمِينَ بوصايا النَّبي صلى الله عليه وسلم لكم في نسائِكم وبناتِكم بقوله « اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا ، فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ . »[[11]]. أي أسيرات : وقوله صلى الله عليه وسلم « إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ »[[12]]. وقَوله صلى الله عليه وسلم « أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَاكْسُوهُنَّ مِمَّا تَكْتَسُونَ ، وَلاَ تَضْرِبُوهُنَّ وَلاَ تُقَبِّحُوهُنَّ »[[13]]... فلنتق الله عباد الله ولنتخلق بأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام  في الوفاء بالزوجات ، ففي ذلك تربيةٌ للنشءِ على الخير ، لنفوز وإياهم بالسعادة في الدُّنيا  والآخرة ،، عباد الله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }[[14]]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وارض اللهم عن آله وصحبه أجمعين ، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ،، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأَذِلَّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداءك أعداء الدين يا رب العالمين ، اللهم إنَّا نسألك الأمن والأمان لبلدنا وسائر بلاد المسلمين يارب العالمين ، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أصلح زوجاتنا وذرياتنا، وبارك لنا في أموالنا وأولادنا، وتقبل منا واغفر لنا وارحمنا ، إنك أنت السميع العليم ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن أوصانا وأوصاكم بصالح الدُّعاء ، ولجميع المسلمين ، ولمن بنوا هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن عمل فيه صالحاً وإحساناً يا رب العالمين ..



[1] - النساء1 .
[2] - صحيح البخاري.
[3] - صحيح البخاري .
[4] - سنن بن ماجة .
[5] - صيح البخاري .
[6] - البقرة: 237 .
[7] - الرحمن: 60 .
[8] - الروم21 .
[9] - مسند الإمام أحمد .
[10] - مسند الإمام أحمد .
[11] - سنن بن ماجة .
[12] - سنن البيهقي .
[13] - سنن أو داود .
[14] - الأحزاب56 .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون