جديد المدونة

خلق الوفاء بالعهد


خلق الوفاء بالعهد

  الْحَمْدُ لِلَّهِ كَرِيمِ الْعَطَاءِ ، جَمِيلِ الثَّنَاءِ ، أَمَرَ عِبَادَهُ بِالْوَفَاءِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، جعل محبته لعباده الأوفياء الأتقياء ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قُدْوَةُ الأَوْفِيَاءِ، وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ ، صَلى الله وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ الشُّرَفاء ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ العرض والجزاء . أما بعد : فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ ، قَالَ تَعَالَى:{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}([1]).

معاشر المسلمين : ونحن نعيش هذه الأيام المباركة ، أيام ذكرى المولد النَّبوي الكريم  ، لِنَتَذَكَّرَ الكمالاتِ الإنسانيةَ ، والفضائلَ الأخلاقيةَ ، التِي أَكْرَمَ اللهُ تعالَى بِهَا نبيُّنَا عليه الصلاة والسلام ، وأمرنَا ربنا جل وعلا بالتَّحلي بها ، والاقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم ، واقتفاء سيرته ، والتخلقِ بأخلاقه ، إلاَّ أنَّ كثيراً من النَّاسَ في هذا الزمن ، قد ابتعدوا عن أخلاقيات ديننا الكريم، ففَصَلوا بين الجانب العمَلِي والجانب النظري، والإسلام قولٌ وعمل، فلا بُدَّ مِن الأخْذ بالاثنين معًا، ولا ينفعُ الانتماءُ للإسلام قولاً فقط ، بل لا بد من عمِلٍ يُبرهِن على إيمان المرء بربِّه جلَّ وعلا ، فالإيمان اعتقادٌ بالقلب، وقولٌ باللِّسان، وعمَلٌ بالأركان .

ولقد وصَّانا ربُّنا - تبارك وتعالى - في مطْلَعِ سورةٍ كُبرى مِن السِّوَرِ الطوال؛ بخلُقٍ عظيمٍ من أخلاق الإسلام ، فقال الحق جلَّ وعلا في مستَهَلِّ سورة المائدة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. }[[2]]، فالعقود: جمع عقد، وهو: العهد الموثق . والمراد بالعقود هنا: ما يَشمل العقود التي عقدها الله علينا، وألزمَنَا بها؛ مِن الفرائض والواجبات والمندوبات ؛ وما يشمل العقودَ التي تقع بين الناس بعضهم مع بعض في معاملاتِهم المتنوِّعة ، وما يشمل العهود التي قطعها الإنسانُ على نفسه ، والتي لا تتنافَى مع شريعة الله  تعالى . وقد قال الإمام القرطبي في تفسيره للآيةِ السابقة: المعنى: أوفوا بعقد الله عليكم، وبعَقْدكم بعضكم على بعض ، وهذا كلُّه راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح ، وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «. الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا »[[3]]. ، وقال أيضًا: « . مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ . »[[4]] .

فبيَّن عليه الصلاة والسلام ، أنَّ الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ، ما وافق كتابَ الله ؛ أيْ: دين الله ، فإنْ ظَهَر فيهما ما يخالف رُدَّ، كما قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »[[5]].

وَرَوى ابنُ أبي حاتم أنَّ رجلاً أتى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال له : اعْهَدْ إليَّ، فقال له: إذا سمعْتَ الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا" فأَرْعِها سَمْعك؛ فإنَّه خيرٌ يَأمر به، أو شَرٌّ يَنهى عنه . وقد أخذ العلماءُ مِن هذه الآية الكريمة وجوبَ الوفاء بالعهود التي شرعها الله تعالى ، وهذا المعنى تَزْخَر به سورةُ المائدة في كثيرٍ مِن آياتها. وغيرها من الآيات في كتاب الله ، فقد قَالَ الله تعالى: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }[[6]] ، وقال تَعَالَى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ }[[7]]، وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }[[8]]. وفي الحديث الشريف عن أَبي هريرة  رضي الله عنه  : أنَّ رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم  قَالَ: « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »[[9]]. وزاد في روايةٍ لمسلم: « وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ »[[10]].

إخوة الإيمان : لقد كان رسولنا  صلَّى الله عليه وسلَّم ، قدوةً في الوفاء بالعهد، فها هو يأمر عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن يَبِيت في فراشه ليلةَ الهجرة ؛ كَيْ يَرُدَّ الأماناتِ إلى أهلها، أوَلَيس هو القائل: « أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ »[[11]]. ؟ وها هو صلَّى الله عليه وسلَّم ، يُعاهِد سُهيل بن عمرو في الحديبية، فيأتي أبو جندل بن سهيل بن عمرو مُستصرِخًا مستنصرًا ، فيردُّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفاءً بالعهد.

وهذا أبو بصير يأتي إلى مدينة رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم ، بعد صُلْح الحديبية، فترْسِلُ قريش في عقبه رجلين يأخذانِه، فقالا: يا محمد، رُدَّهُ إلينا بالعهد الذي بيننا وبينك، فردَّه النَّبي الكريم وفاءً بعهده ، غيرَ أنَّ أبا بصير مكَّنَهُ الله من أحد الرجلين فقتله، وفرَّ الآخرُ عائدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فلما رآه الحبيب المصطفى قال: « لَقَدْ  رَأَى هَذَا ذُعْرًا »[[12]].

فإذا بأبي بصير يأتي ثانيةً قائلاً: يا نبي الله، قد أوفى الله ذمَّتَك ونجَّانِي الله منهم، فيقول النبي الكريم: « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ »[[13]]! وهنا عَلِم أبو بصير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا محالةَ رادَّهُ إلى قريش؛ وفاءً بالعهد الذي بينه وبينهم.

فهرب أبو بصير إلى منطقة تسمى " سِيفَ الْبَحْرِ " عند البحر الأحمر، ومكث بها ولحق به أبو جندل بن سهيل وكلُّ مَن أسلم مِن قريش؛ فجعلوا يُرهِبون قريشًا، ويأخذون قوافلَها، حتى استغاثت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يأذن لهؤلاء النَّفَر باللحاق به في المدينة ؛ وبذلك يكون النَّبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه ، قد ضرب لنا المثل الأعلى في الوفاء بعهده .

إخوة الإيمان : فأين نحن من هذه الأخلاق ، أين الوفاء بالعهد؟! وأين الصدق في الوعد ؟! فكم من الناس من يتكلم؟ ويَعِد ويتعهد لله وللناس؟ أنَّه لن يخلف في وعده وعهده ، ثُمَّ لا يفىِ به ، ويكفى أن نعلم أيها الإخوة : بأن إخلاف الوعد ، وعدم الوفاء بالعهد من خصال المنافقين عياذاً بالله! فمن أخلف وعده وغدر بعهده ، فقد اتصف بصفة من صفات المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ »[[14]] .  نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا للوفاء بالوعود والعهود مع أهلينا وأصدقائنا ومجتمعنا وأوطاننا ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد فيا إخوة الإيمان : لقد كان أسيادنا الصحابة رضي الله عنهم ، قدوةً في الوفاء ، وكانوا المثَلَ الأعلى في الالتزام بالأخلاق العالية، والوفاء في بَيْعِهم وشرائهم، بل فَتَحوا بلادًا بأكملها بحُسْن خُلُقهم . فمِن المعلوم لِمَن قرؤُوا التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية العطرة - أنَّ أخلاق الصحابة كانت تَجذِب الناس للدُّخول في الإسلام، كما جرى وحدث بالفعل في بلاد السند، حيث فتحت هذه البلاد دُونَما أن يُرَاق دَمٌ، بل فتحت بأخلاق الصحابة؛ من وفاء وأمانة وصدق . إذ كان الناس يرونهم، فيعجبون بأخلاقهم، فيسألون عنهم: مَن هؤلاء؟ فيقال لهم: هؤلاء أصحاب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ؛ فيَسألون: ومَن محمد هذا؟ فيقال لهم: هذا نبي جاء بدعوة الإسلام، فيُقبلون على دين الله أفواجًا. فأين المسلمون اليوم من سادتنا الصحابة  رضي الله عنهم؟ ما أحوجنا إلى أبٍ وأُمٍ وفيين ، يربون أبناءهم على خلق الوفاء ، وإلى تاجر وَفِيٍّ، وصانع وفِيّ، ومعلم وفِيّ، ومسؤول وفِيّ ؛ ومسئولٍ عن عهد واتفاق بين الناس بالأمن والأمان ومصلحة البلاد والعباد وَفِيٍّ ، نحتاج إلى كل ذلك ، كي تنصلح أحوالنا ويستقيم مجتمعنا ، ويرضى عنا ربنا . نسأل الله تعالى أن يعيننا على تحقيق ذلك ، وأن يوفقنا إلى كل خير إنه سميع قريب مجيب الدعاء . عباد الله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }[[15]]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وارض اللهم عن آله وصحبه أجمعين ، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ،، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأَذِلَّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداءك أعداء الدين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الأمن والأمان لبلدنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم أصلح أمورنا ، وأمور بلادنا ، وأبعد عنا وعنها كل منكر وفساد ، واجعلنا جميعا يدا واحدة وقلبا واحدا ، يسعى لهناء البلاد وسعادة العباد ، اللهم ارزقنا لذة النظر إلي وجهك الكريم وحرم أجسادنا علي النار،  اللهم ارزقنا مع كل خفقة قلب فرجا وبكل طرفة عين مخرجا وبكل صباح مشرق عفوا وبكل مساء هادئ صفوا وبكل ركعة أمنا واستقرارا وبـكل دعاء استجابة . اللهم ارحمنا بترك المعاصي أبدا ما أبقيتنا ، وارحمنا أن نتكلف ما لا يعنينا وارزقنا حُسن النظر فيما يرضيك عنا ، اللهم اغفر لنا ولولدينا ، ولجميع المسلمين ، ولمن بنوا هذا المسجد ولمن أنفق وينفق عليه ولمن عمل فيه صالحا يا رب العالمين ..

 

 



[1]- آل عمران 76 .
[2] - المائدة: 1 .
[3] - سنن الترمذي .
[4] - صحيح البخاري .
[5] - صحيح مسلم .
[6] - الإسراء: 34 .
[7] - النحل: 91 .
[8] - الصف: 2 – 3 .
[9] - صحيح البخاري .
[10] - صحيح مسلم .
[11] - سنن أبو داود .
[12] - سنن أبو داود .
[13] - صحيح البخاري .
[14] - صحيح البخاري .
[15] - الأحزاب56 .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون