شهر شعبان
شهر شعبان
الحمد لله الذى امْتَنَ على عباده بمواسمَ يَرْجِعُونَ فيها
إليه، وَيُقْبِلُون بِقُلُوبِهم عليه، فسبحان من أنعم علينا وتفضل، وأسبغَ عطاياهُ
وأسبل، وله الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم ، وإليه ترجعون ، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ، فاطرِ السَّماواتِ الْعُلَى ، وَمُنْشِئِ الأرَضِين والثَّرى
، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ الْمُجْتَبَى ، ورسوله المرتضى ، صلواتُ الله
وسلامهُ عليه، ما دار في السَّمَاءِ فَلَك، وما سبحَ في الملكوتِ مَلَك ، وعلى آله
وأصحابه الطيبين الطاهرين ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .. أما بعد ،
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وطاعته ، فما هي واللهِ إلا ساعة ، ثم تنقضي أعمارُنا بآلامِها وأحزانها، وتبقى الحسراتُ
والتَّبِعَات، وهكذا شأنُ الدُّنيا، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} الروم: من الآية 55. والعبدُ العاقل ، هو الذي يأخذُ من حياته لمماته، ومنْ
دنياهُ لأخراه، فالدُّنيا مزرعةُ الآخرة، وهي ساعة، فاجْعلها طاعة، والنَّفْسُ طَمَّاعة،
فألْزِمْهَا القَناعة، وإلاَّ فإنَّ الأنفاسَ تَعَدُّ، والرِّحالُ تُشَدُّ، والتُّرابُ
من بعد ذلك ينتظرُ الْخَدّ ، وَمَا عُقْبَى الْبَاقِي غيرُ اللِّحَاق بالماضي ، وعلى
أَثَرِ من سَلَف يمشي من خلف، والسَّعِيدُ من وُعِظَ بغيره، والشَّقِيُّ من وعظ بنفسه
، قال عليه الصلاة والسلام « الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ
الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ
».. عباد الله : إِنَّ من رحمةِ الله تعالى علينا
، أن جعل لنا مواسم فيها نفحات ، لِمَنْ يَتَعَرَضُ لها وَيَغْتَنِمَها، يفرحُ بها
المؤمنون ، ويتسابق فيها الصَّالحون، ويرجِعُ فيها المذنبون ، ويتوب الله على من تاب،
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لسانُ حالهم يقول : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ}
طه: 84.
فالمؤمن يا عباد الله : ليتقلب في هذا الزمان، وَيَمُدُّ
الله له في الأجل، وَكُلُّ يومٍ يبقاه في هذهِ الدنيا ، هو غنيمةٌ لهُ ليتزود منه لأخرته،
ويحرث فيه ما استطاع ، ويبذر فيه من الأعمال ما استطاعتْهُ نفسه وتحملتْهُ . وها قد
مضى شهرُ رجب، وأظَّلنا
شهر شعبان ، وفاز من فاز بالتقرب والاستعداد في رجب لرمضان ،
ودخل شعبان والنَّاس عنه غافلة . في سنن النسائي ، عن سيِّدنا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ
رضيَّ الله قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ
مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ . قَالَ « ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ ، بَيْنَ
رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ ». . ففي هذا الشَّهر يا عباد الله ، يتكرَّمُ الله على عباده
، بتلك الْمِنْحَةِ العظيمة ؛ منحةُ عرض الأعمال عليه سبحانه وتعالى، وبالتَّالي قَبُولَهُ
مَا شَاءَ مِنْهَا.
وهنا يجب أن تكون لك وقفةٌ تربويةٌ أخي المسلم : مع شهر
شعبان ؛ فإن هذا الشهر ، هو الموسم الختامي ، لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبم
سيُختم عامُك؟ ثم ما الحال الذي تُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ اللهُ عَلَيْهِ وَقْتَ رفْعِ
الأعمال؟ وما هي الأعمال التي تحب أن ترفع عنك إلى الله ؟! فهي إذاً لحظة حاسمة في
تاريخ المرء، ، يتحدد على أساسها ، رَفْعُ أَعْمَالِ العام كلِّه إلى المولى تبارك
وتعالى، القائل سبحانه : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ} فاطر: 10. فهل تحب أن يُرفع عملك ، وأنت في طاعةٍ للمولى ، وثبات
على دينه، وفي إخلاص وعمل وجهاد وتضحية؟ أم تَقْبَلَ أن يُرفع عملك ، وأنت في سكون
وراحة وقعود ، وضعفِ هِمَّةٍ وَقِلَّةِ بَذْلٍ ؟ أو أن يرفع عملك ، وأنت تغتاب
الناس وتتحدث في المجالس عن مساوئهم أو في أعراضهم ؟ أو تحب أن يرفع عملك وأنت تعتدي
على الناس بالسرقة والقتل أو السبِّ والشتم واللعن ؟ راجع نفسك أخي الحبيب ، وبادر
بالأعمال الصالحة ، قبل رفعها إلى مولاها ، في شهرِ رفع الأعمال .
ومن الأعمال الصالحة إخوة الإسلام : التي يجب أن نحرص على
أن ترفع لله عز وجل ، في هذه الأيام وغيرها ، الحرص على التآلف والتراحم، والتواصل
والتسامح والمحبة ، وتوحيد الصف والكلمة ، بين أبناء المجتمع والبلد الواحد ، في
سنن بن ماجة عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ ، أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ « إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، فَيَغْفِرُ
لِجَمِيعِ خَلْقِهِ ، إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ ». وهي فرصة تاريخية ، لكل
مخطئ ومقصر في حق الله ودينه ودعوته ، أو في حقِّ إخوانه وأحبابه وأصحابه ومجتمعه
، فهي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه بعضنا البعض ، فلا مكان هنا لمشاحنٍ وحاقد
وحسود، وليكن شعارنا جميعًا قولهُ الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ، وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ
آمَنُوا ، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} الحشر: 10. قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحةُ للأمة.
وبهذه الخصال بلغ من بلغ ، وسيد القوم من يصفح ويعفو. في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « تُفْتَحُ أَبْوَابُ
الْجَنَّةِ ، يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ
لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ
شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ
حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ». فما أحوجنا أيها
الإخوة ، أن نبادر أولا : بالتصالح والتسامح مع أنفسنا وتصفية وتنقية قلوبنا من كل
شحناء وبغضاء وغلٍّ ، وتكبُّرٍ وجفاء ، وَأَن
نَجَعْلِها سليمةً خاليةً من كلِّ مرضٍ ، ثمَّ ثانياً أن تتظافر جهودنا وتتآلف
قلوبنا ، في سبيل إصلاح مجتمعنا ، وتنقية الأجواء فيما بين المتخاصمين والمتهاجرين
والمتقاطعين ، وتوحيد الصفِّ والكلمة فيما
بيننا ، ليعمَّ الخير والنماء والأمن ولأمان والسلام في بلادنا ، وهذا وعدٌ من
الله بالأمن إن فعلنا ذلك يقول سبحانه وتعالى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، وَمَن
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور55 نسأل الله تعالى أن يعيننا على إصلاح أعمالنا وأحوالنا ، وأن يؤلف بين
قلوبنا ، إنه سميعٌ قريب مجيب الدعاء ،، أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ
لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ
لله الذي جعلَ لعبادِه مواسمَ يستكثرون فيها مِن القُربات والعملِ الصَّالح ، وأَمَدَّ
في آجالهم فهم في أبوابِ الخيرِ بين غادٍ ورائِح ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا
شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى
آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.. أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله ، واغتنموا هذه
الفُرَصَ العظيمة، فو الله لا يدري أحدنا هل يُدْرُكُهَا مرة أخرى؟ أم يكونُ ساعتها
تحت الأرض مرهونٌ بما قدم لنفسه؟ وهي أياما معدودة تمر سريعة ، فالموفق من وفقه الله
لاغتنامها {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281
. عباد الله : يقول الله سبحانه وتعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
}الأحزاب56 . اللهم صل وسلم
وزد وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ
إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعز الإسلام
وانصر المسلمين ، وأذل الشِّرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين ، واجعل بلدنا
ليبيا سخاء رخاء أمنا وأمانا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم ول أمورنا خيارنا ولا
تول أمورنا شرارنا ، ووفقنا يا مولانا جميعا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ
أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الْمَغْفِرَةَ والثَّوَابَ لِمَنْ
بَنَوا هَذَا الْمَسْجِدَ ولمن أنفق وينفق عليه
، ولجميع المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك سميع قريب مجيب الدعوات .
ليست هناك تعليقات