جديد المدونة

الاستعداد للدار الآخرة


الاستعداد للدار الآخرة

الحمد لله المتفرد بالعزة والجبروت والبقاء, أَذَلَّ أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء, أحمده سبحانه جعل الموت مُخَلِّصاً للأتقياء, وسوءَ مُنقلبٍ للأشقياء, وأشهد أن لَّا إله إلا الله وحدة لا شريك له, شهادةً نرجو بها النَّجاة من العذاب والشَّقاء , وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله , أفضل الرُّسُلِ وسيِّدُ الأنبياء ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه الأتقياء الأنقياء ، والتَّابعين ومن تبعهم بإحسانٍ مادامتِ الأرض والسَّماء. أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، فلنتق الله ولنعتبر بمن مضى من قبلنا، عاجلَهُم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، هم السَّابقون ونحن اللاحقون، سبقونا بمضي الآجال، ونحن على آثارهم تَشْتَدُّ بنا الرحال ، فلنستعد قبل الموت لما بعد الموت ، ولنتزود بصالح الأعمال  {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ، وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ ، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً ، وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }النساء173.

معاشر المسلمين : حديثُنا في هذا اليوم بإذن الله عزَّ وجل ، عن أمرٍ عظيمٍ فظيع ، يغفل عنه الكثير من النَّاس ، الكثير من النَّاس لا يستعدُّ لهذا اليوم ، أتدرى ما ذلك اليومَ أيها المسلم: إنَّه يوم أن ترحل من هذه الدنيا إلى دارٍ ثانية { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }المؤمنون100  . يقول الله عزَّ وجل  {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} عبس 17- 21 . إنَّه القبر ، هذه هي الدَّارُ الثَّانية  ، دارُ البرزخ { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }المؤمنون100  . من أنيسك وجليسك في ذلك الموقف العظيم ؟ هو ما تقدمُه الآن من عملٍ صالح ؛ في كل يومٍ نُوَدِّعُ قريباً أو حبيباً ، أو صديقاً أو أخاً في الله ينتقل من دار الدُّنيا إلى دار البرزخ ، أسأل نفسي هل فكر هذا الإنسان ، أو فكرنا نحن جميعاً أيها المسلمون ؟  هل فكرنا في ذلك اليومِ العظيم ؟! فالقبر أول منازل الآخرة ، فإن صَلُح فما بعدهُ أيسر ، وإن كان غيرَ ذلك فلا تلومن إلا نفسك .

أخي المسلم : ليلتانِ ينبغي أن تكونَ في مُخَيِّلَةِ كُلِّ مسلمٍ ومُسلمة ، الليلة الأولى مع أهلك وأحبابك وجلسائك ، مع إخوانك تُضاحكهم وتُمازحهم تُشاطرهم الحديث والأنس والسَّمر ؛ والليلة الأخرى يوم أن تُفَارق هذه الدُّنيا إلى دارٍ ثانية ، فتنتقل عن هذه الدار إلى دار البرزخ .

فارقت موضع مرقدي **  يوما ففارقني السُّكون

القبر أول ليلةٍ         **  بالله قل لي ما يكون

أخي المبارك : في تلك الحفرة المظلمة ، كلُّنا سندفن في ذلك القبر الموحش المظلم ، والقبر إمَّا روضةٌ من رياض الجنة ، أو حفرةٌ من حفر النَّار ، عافانا الله وإياكم ، سَتُلَفُ ثم توضع في هذا القبر المُظلم ، فَوْقَكَ التراب ، وعن يمينك التراب ، وعن شمالك التراب ومن أمامك ، ومن خلفك ومن تحتك ، كلُّه ترابٌ في تراب ، هل فكرت ؟ وأرجوا أن تفكر وأن تحاسب نفسك ، قبل أن تنتقل عن هذه الدَّار ، أن تستعدَّ للسُّؤال ، أن تستعد لسؤال الملكين ، أسئلة قرأتها كثيراً ، وسمعتها كثيراً ، كُلٌّ منَّا يعرف الإجابة الآن ، من ربك ما دينك من نبيك ؟ أعلمُ أنَّك تعلم الإجابةَ الآن ، ولكن هناك فتنة عظيمة في ذلك الوقت ، من الذي سيأتي بالإجابة الصحيحة ؟ ما كُلُّ أَحَدٍ موفقٌ للإجابة الصحيحة ؟ الموفق من وفقهُ الله {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }إبراهيم27 . إذا كنت مُطيعاً ، إذا كنت صالحاً ، إذا كنت منافساً لكل خير ، مُبتعداً عن كل مُحرم ، طائعاً لربك ، مُمْتَثِلاً لأمر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ سيثبتك ، وستأتي بالإجابة الصحيحة فتقول ربيَّ الله ، وديني الإسلام ، ونبي محمد صلى الله عليه وسلم ، إنَّهُ نجاحٌ بامتياز ، إنَّهُ سعادة في هذه الدار ،  دار البرزخ ، فسيكون قبرك روضةٌ من رياض الجنة . ونحن في دار البرزخ إخوتي في الله : هو زيارة وليس بدارِ إقامةٍ دائمة ، فإنَّ الله عزَّ وجل يقول  {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ }التكاثر2. وفي أول السورة قال جل وعلا  {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ }التكاثر1. نعم أَلْهَتِ الْكَثِيرَ منا أموالُنا وأهلُونا ، ألهتنا الدُّنيا بزخارفها ، تنافسنا عليها ، نجمعها ولا يهمُنا إن كانت من حلالٍ أو من حرام ، وتركنا التنافس الحقيقي في الأمور الأخروية ، التي قال الله عنها { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }المطففين26 . متى تُفيق {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ }التكاثر2.  سمَّاها الله عز وجل زيارة ، لأننا سَنُبْعَثُ جَمِيعاً من هذا القبر ، من دار البرزخ ، سَنُبْعثُ إلى دارٍ أبديةٍ سرمدية ، ألا وهي الدَّار الثالثة ، وهي دار الآخرة .

إخوتي في الله : القبر كما ذكرت ينبغي أن يكون في مُخَيِّلَتِنَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ » ماجة. يَعْنِى الْمَوْتَ . هل فكرت في الملكين ؟ أسودان أزرقان حينما يسألانك ، من ربك مادينُك من نبيك ؟ حينما يُجْلِسانك وَيَتْرُكَكَ الأهلُ والأحباب ، تسمع قرع نعالهم ، وكأنَّك تقول بلسان حالك ، أريد أن أمشي معكم ، أن أذهب معكم ، غادروا القبر وتركوك ،  وفي التُّراب دفنوك ، و لو ظلّوا معك ما نفعوك ، و لمْ يبقَ لك إلا الله ، والله هو الحي الذي لا يموت ؛  إن كنت مُفرطاً فستندم ، وتقول ليتني فعلت ، وليتني نافست وليتني أطعت مولاي ، تندم على كل فعلٍ مُشِينٍ فعلته في دنياك ،  أمَّا إن كنت صالحاً مؤمناً قانتاً ساجداً راكعاً بارّاً بوالديك ، مُحسناً إلى أهلك ، إلى جيرانك إلى مجتمعك ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، فَسَتَحْمَدُ الله عزَّ وجل ، وَسَتَبْتَشِرُ وَسَتَعُمُكَ الفرحة سيكون قبرك روضةً من رياض الجنة ، الله أكبر ؛

أيها المسلمون : فلنستيقظ من غفلتنا ورقادنا ، فَكُلُّ يومٍ نودعُ قريباً ، والله عزَّ وجل يقول في كتابه  {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ  ، مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } الأنبياء1-3  . ألهتنا الدنيا بمشاغلها ، نتناقش ونتجادل في أمورٍ فارغة ، نضيِّعُ فيها أوقاتنا ، ترتفع أصواتنا على بعضنا البعض بحدة وبشدة ، ونقسم على أشياءٍ حصلت حدث بها الناس ، ولا ندري صحتها من عدمها ، نتابع أحداث الدنيا حرفا بحرف وكلمة بكلمة ، من قناةٍ إلى قناة ، ومن موقعٍ إلى موقع ، وكأننا سنمتحن فيها ، وإذا سئلنا عن أمرٍ أو نهيٍ في ديننا تحيَّرنا في الجواب ، ولم ندرى ما هو الصواب ، غفلة عظيمة وكأننا سنخلد في هذه الدنيا ، جاء في مسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أَيُّهَا النَّاسُ : أَظَلَّتْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، أَيُّهَا النَّاسُ :  لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ، أَيُّهَا النَّاسُ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ » رواه أحمد . وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ». وفي حديث أسماء قول النبي صلى الله عليه وسلم ،:« إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى قُبُورِكُمْ كَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ أَوْ كَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ ».

أيها المسلمون : إنها والله فتنة عظيمة ، ينبغي أن نستعد لها ، وأن نعمل لتلك الدار ، فكل يومٍ نودعُ حبيباً ، وغداً كما نُعَزِّي في أقربائنا وأحبابنا والمسلمين ، سَيُعَزَّى بنا فها هو مَلَكُ الموت قد دنا منا وتعدانا إلى غيرنا ، وسيتعدى غيرنا إلينا ، فلنأخذ حِذْرَنا ، أسأل الله جل وعلا بأسمائه وصفاته ، أن يُوقظ قلوبنا من غفلتها ، وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين والمنافسين إلى مغفرة الله ، وإلى جنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض ، وفقنا الله لما يحبه ويرضاه . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم  

الخطبة الثانية

الحمد لله غير مقنوطٍ من رحمته ولا ميؤوسٍ من مغفرته أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمته وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه وخيرته من خلقه ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وأقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد : فيا عبد الله :

الموتُ ضيـفٌ فاستعـدَّ لهُ         

                        قـبلَ النُّـُزولِ بأفضلِ العُدَدِ

واعْملْ لـدارٍ أنتَ جَاعِلَها 

                           دارَ الْمُقامـةِ آخـرَ الأمـدِ

يا نفسُ موردُكِ الصراطُ غداً

                         فتأهبي من قبـل أن تـردي

فمتى يستعد للموت من ظللته سحائب الهوان ، وسار في أودية الغفلة؟! متى يستعد للموت ، وهو لا يبالي بأمر الله في حلال أو حرام؟! متى يستعد للموت ، من هجر القرآن ، والمساجد، ومن أكل أموال النّاس بالباطل ، وارتكب الزنا والفواحش والمحرمات؟! كيف ومتى سيستعد للموت ، من لوث لسانه بالغيبة والنميمة ، وامتلأ قلبه بالحقد والحسد، وضيع أوقات عمره في تتبع عورات المسلمين والوقوع في أعراضهم؟! فيا من قطَعْتَ صلتك بالمساجد، ماذا تقول إذا بلغت الروح الحلقوم؟ ويا مَن أنشأت أولادك على الفساد ، ويا مَن أدمنت الخمور والمخدرات ، ويا من تسعى في أذية الناس، ويا من وقعت في الزنا وهتك الحرمات، ويا مَن ظلَمْتَ العباد وسعيت بالفساد، ما هو حالك عند الموت، وماهي خاتمتك، وهل ستوفق للنطق بالشهادتين عند الموت ، أم سيُحال بينك وبينها ، كما فعل بغيرك؟! { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ }سبأ54 اللهم سلم سلم ، اللهم سلم سلم ، فلنتب إلى الله إخوة الإيمان ، ولنسأله أن بجعل خاتمتنا على الإسلام ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..

عباد الله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وارض اللهم عن آله وصحبه أجمعين ، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين يارب العالمين   اللهم احفظنا واحفظ بلادنا . واجعلها أَمْناً وَأَمَاناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين ، اللَّهُمَّ ولِّ أمورنا خيارنا ولا تولِّ أمورنا شرارنا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الْمَغْفِرَةَ والثَّوَابَ لِمَنْ بَنَوا هَذَا الْمَسْجِدَ ولمن أنفق وينفق عليه  يا رب العالمين ، اللهم اجعل خير أعمارنا أخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم أطل أعمارنا وأصلح أعمالنا، اللهم امنن علينا بتوبة نصوح قبل الموت وشهادة عند الموت ورحمة بعد الموت يا رب العالمين. اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة، يا كريم يا رحيم.

 

 

 

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون