ثوابت إيمانية (2)
ثوابت إيمانية (2)
الحمد لله الرَّؤوفِ الرحيم ، البَّرِ الجواد الكريم ، وأشهد
أن لا إله إلا الله الملك العظيم ، له الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، والإحسان
العميم ، وله الرحمة الواسعة ، والحكمة الشاملة ، وهو العليم الحكيم ، وأشهد أنَّ سيدنا
ونبينا محمدا عبده ورسوله ، الذي قال الله فيه : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
}القلم4 . صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والتابعين
وتابعيهم بإحسان الذين هُدُوا إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، أما بعد فأوصيكم عباد
الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ }التغابن16.
معاشر المسلمين : تحدثنا في الجمُعة الماضية ، على أن هناك ثوابتا إيمانية
، يجب أن يمتلئَ بها قلب المؤمن ، ويعيش حياته في ظلال معانيها ، وتحدثنا عن اثنين
منها : واليوم نكمل بقية هذه الثوابت .
فمن الثوابت
الإيمانية إخوة الإيمان: أن الله لطيف بعباده : فربُّنا رحيم رؤوف لطيفٌ بعباده
قال تعالى {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ }الشورى19. وقال جلَّ ذكره { يُرِيدُ اللّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }البقرة185 . وتأملوا هذا المشهد القرآني الجميل الجليل قال ربنا { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ، الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ، مِن بَعْدِ مَا كَادَ
تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ }التوبة117 وعَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِسَبْىٍ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ تَبْتَغِى ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا
فِى السَّبْىِ أَخَذَتْهُ ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا
فِى النَّارِ ». قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ
. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ
هَذِهِ بِوَلَدِهَا » رواه مسلم. وما
أروع هذه الآية وما أبهى معناها يقول
تعالى { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ، وَكَانَ اللّهُ
شَاكِراً عَلِيماً }النساء147. فكن لله وليّاً ، تكن به عزيزا قويّاً ، ما كان لربنا
سبحانه وتعالى أن يتركَ أولياءه بلا حفظٍ ونصر ، كلا والله ! بل هو يكلؤهم ويحفظهم
في أنفسهم وذرياتهم وأموالهم ، وهذا من تمامِ عزَّته ، فمن كان في جواره ، فلن
يستطيع مخلوقٌ أبداً أن يخفر اللهَ في جواره ، قال الله تعالى { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }المؤمنون88 . والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول « مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِى ذِمَّةِ
اللَّهِ .. » رواه مسلم . فإذا كان مجرد صلاة الصبح في جماعة ، تجعل العبد في
ذمة الله وحفظه ، فكيف بالأعمال التي هي أعظم من ذلك وأكبر وأفضل ؟ وكيفما تكن لِلَّهِ
يكن الله لك .
ومن الثوابت الإيمانية : إن ربي غنيٌّ كريم : أنَّ الله
غنيٌّ عن العالمين ، لا تنفعُه طاعة ، ولا تضرُّه معصية ، لا بد أن تعتقد أنَّ
الله غنيٌّ عنك وعن عملك ، وأن عملك لا ينفعُ إلا نفسك ؛ ولو كفر الناس كلُّهم ، ما
نقص ذلك من ملك الله شيئاً ، ولو آمن كل الخلق ، ما زاد ذلك في مُلك الله شيئاً ،
قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ
هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } فاطر15. وقال جلَّ
وعلا { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
}العنكبوت6 . ومن حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « يَدُ اللَّهِ
مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ – أي دائمة
العطاء - وَقَالَ - أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ
مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِى يَدِهِ –أي
لم ينقص - وَقَالَ - عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ » رواه البخاري . فإذا ابتلاك الله فصبرت على بلائه ، ورضيت بحكمه ، زادك الله توفيقا
وسداداً ، وَوَهَبَكَ حِكْمَةً ورشادا ، وأمَّا إذا سخطت وَجَهِلْتَ ، وَأَعْرَضْتَ
وَضَجِرْتَ ، فإنَّ الله غنيٌّ عنك ولن تضر الله شيئاً ، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم « إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا
أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ
السَّخَطُ » الترمذي. أيها المسلم : لا
بُد أن تعلم وتوقن أنَّ الله غنيٌّ عن العالمين ، وهو سبحانه غنيٌّ كريم ، لا ينفذُ
عطاؤُه ، ولا تُحْصَى آلاؤُه ، ولا تُحَدُّ نَعْمَاؤُه ، ولا يُذَلُّ أولياؤُه ،
ولا يُعْجِزُهُ أعداؤُه ، ولا شفاء إلا شفاؤُه ، ولا عطاءَ إلا عطاؤُه ، قال الله
جلَّ جلالُه {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ
خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ ، وَكَانَ الإنسَانُ
قَتُوراً }الإسراء100 .
ومن الثوابت الإيمانية: إنَّ الله سميعٌ بصير : أن تؤمن
وتعتقد وتوقن، أنَّ الله سميعٌ لا يغيب عن سمعه صوت ، بصيرٌ لا يغيبُ عن بصره شيء
، فسمعُه سبحانه محيطٌ بِكُلِّ مسموع ، وَبَصَرُهُ مُحيطٌ بكلِّ شيء ، ولا يخفَى
عليه شيءٌ من المخلوقات ، في الأرض ولا في السماوات {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن
جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ }الرعد10. فربُنا يسمَعُ ويبصِرُ حقيقةً على ما يليق بجلاله ، وهو مُنَزَّهٌ عن
صفاتِ المخلوقينَ ومماثلتهم ، قال الله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء }آل عمران5.
ومن الثوابت الإيمانية: الابتلاء سنَّةٌ ثابتة : قال
الله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك2 . قال الشيخ
السَّعْدي رحمه الله : إن الله خلق عباده وأخرجهم لهذه الدَّار، وأخبرهم أنهم
سينقلون منها وأمرهم ونهاهم ، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره ، فمن انقاد لأمر
الله وأحسنَ العمل ، أحسن له الجزاء في الدَّارين ، وَمَنْ مَالَ مع شهواتِ النَّفس
ونبذ أَمْرَ الله فله شرُّ الجزاء.
عباد الله : كأن الحياة والموت ، ما خُلقا إلا للابتلاء، والإنسان ما
خلق إلا للابتلاء بالتكاليفِ الشرعية ، وعلى حسبها يكون جزاؤهُ في الآخرة ، وقال
جل جلاله {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا
أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }العنكبوت1-3. إِنَّهُ لا بد من الابتلاء ، ليميز الله الصادق من الكاذب ، والطيب من
الخبيث ، هذه قاعدةٌ أصيلة ، في طريق السير إلى الله ، ووردت في آياتٍ كثيرة غير مَاذُكِرَ
، من ذلك قول الله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ
أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم،
مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ ، حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ
}البقرة214. وقال تعالى {أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ
مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }آل عمران142. والبلاء
يكفر سيئات العبد وَيُطَهِّرُهُ من الذُّنُوب والخطايا ، وهو في حقيقةِ أمره ليس
عذاباً من الله لعبده ، كلا بل إنَّ أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ،
هذا سَعْد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أَىُّ النَّاسِ
أَشَدُّ بَلاَءً قَالَ « الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى
الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ
، وَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ رِقَّةٌ ، ابْتُلِىَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ
الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ
» الترمذي . نسأل الله تعالى أن يغفر ذنوبنا ، وأن يستر عيوبنا ،
وأن يكشف كروبنا ،، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ
لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى
التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أما بعد فيا أيها المسلم
المبارك : إياك أن تظن أنك سوف تعيش في
الدنيا بلا ابتلاء ، بل إن الناس كلهم حتى الكفار مُبتلون ، ولكن فرقٌ كبير ، بين
بلاءِ المؤمن الذي يُزَكِّيهِ اللهُ وَيُطَهِّرُهُ به ، وبين عذاب الله الذي يصيب
به الكافرين في الدنيا قبل الآخرة . فاعلم جيداً أخي في الله أنه لا بد من البلاء
، ولكن اعلم أيضا أن الله جل جلاله لا يُهْمِلُ عبادهُ بل يلطف بهم ، ويُعطيهم من
المعونة ، ما يُثَبِّتُهُم به ، ويحفظهم به ، ولكن القضيةَ أَنْ تَصْبِرَ وَتَثْبُتَ
إِذا وقع بك بلاء ، ثم ادْعُ الله أن يَكْشِفَهُ عنك وَأَنْ يُثَبِتَكَ ، فسوف تجد
لُطفاً عجيباً من الله جل جلاله ، فاحفظ الله يحفظك وسل الله العافية . « اللَّهُمَّ
إِنِّا نسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ
الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِى دِينِنا وَدُنْيَانَا وَأَهْلِنا وأموالنا ، اللَّهُمَّ
اسْتُرْ عَوْرَاتِنا ، وَآمِنْ رَوْعَاتِنا ، اللَّهُمَّ احْفَظْنا مِنْ بَيْنِ أيدينا
وَمِنْ خَلْفِنا ، وَعَنْ أيماننا وَعَنْ شِمَائلنا وَمِنْ فَوْقِنا ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ
أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنا » اللهم احفظنا واحفظ بلادنا . واجعلها أَمْناً وَأَمَاناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد
المسلمين ، اللَّهُمَّ ولِّ
أمورنا خيارنا ولا تولِّ أمورنا شرارنا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، اللَّهُمَّ إنَّا
نَسْأَلُكَ الْمَغْفِرَةَ والثَّوَابَ لِمَنْ بَنَوا هَذَا الْمَسْجِدَ ولمن أنفق
وينفق عليه يا رب العالمين .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ، وصلى الله وسلم
وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ليست هناك تعليقات