جديد المدونة

لا تغضب(1)


لا تغضب(1)

الحَمْدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ، أَمَرَ عِبَادَهُ بِالتَّسَلُّحِ بِالعِلْمِ، والتَّخَلُّقِ بِخُلُقِ الحِلْمِ، والعَيْشِ فِي ظِلالِ الأَمْنِ والسِّلْمِ، أَحمَدُهُ سُبْحَانَهُ وأشكره ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيه، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ، حَثَّنَا عَلَى حُسْنِ الأَقوَالِ والأَفعَالِ، ونَهَانَا عَنِ الغَضَبِ وسُرعَةِ الانفِعَالِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَكثَرُ النَّاسِ صَبْراً وأَوسَعُهمْ صَدْراً، وأَغزَرُهمْ عِلْماً وأَعظَمُهمْ حِلْماً، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهتَدَى بِهَدْيِهِ، وَاستَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله { فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }المائدة100

أيها الإخوة الكرام : إِنَّ الإِسلامَ يُحِبُّ مِنَ الأَخلاَقِ أَعدَلَها، ومِنَ الصِّفَاتِ أجْمَلَها ، وإنَّ من صفات العبد المسلم ، التي لا بدَّ أن تضبط بميزانِ الشرع، وتزمَّ بزمام العقل ، فهي كَمَالٌ إذا ضبطها الإنسان ، ولم تَعْصِفْ به ذات اليمين وذات الشمال ، وهي نقصٌ حينما تَدْفَعُ المرءَ إلى أذية الناس، والتضييقِ على العباد، وحرمان الأهل والأولاد، فَتُطَلَّقُ الزَّوجة، ويتشتت البيت، وتعلو الأجواءَ كآبةُ الْحُزْن ، ومسحة البؤس . ناهيك عما تحمِلُهُ من أذيةِ الجوارح، وسفك الدماء ، وقطع الأرحام .  سبحان الله ما هذه الصفة ؟  إنها صفةُ الغضب !!  في مسند الإمام أحمد، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم- قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ ». فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » .  قَالَ الرَّجُلُ : فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ : فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ .  وكيف لا يجمع الغضب الشر كله، وهو من الشيطان فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِى جَوْفِ ابْنِ آدَمَ أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ » ضعيف . فالغضب حرارة داخلية ، تنتشر داخل الجسد ، عند وجودِ ما يغضبُ بحقٍ أو بباطل ، فيغلي عندها الدَّمُ طلباً للانتقام، فيفقد على إثرها الإنسان اتزانه وسلامة تصوره، ولا يزال الشيطان يُمْلي عليه مرادَاهُ ، ويظهِرُهُ بمظهرِ المظلوم ، حتى يُسَهِّلَ عليه كل إجراء ، لِيُسَهِّلَ عليه الانتقام، فتنهالُ منهُ عباراتُ الفحش والسِّبَاب، فيرتفعُ الصوت، ويتبعُهُ الفعل ، فإنِ اسْتطاع أن يضربَ ضرب، وربما دَفَعَ بمن أغضبه، أو حَذَفَهُ بما تقعُ عليه يَدُهُ ، فَكَسَرَهُ أَوْ جَرَحَهُ ، وربما أزهق روحه ، على إثر غضبة شيطانية ، فما أَشَدَّ الأثر، وما أثقلَ ساعة الندم .

 أيها الإخوة الكرام : حينما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام : « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ » البخاري.  فذاك لأنَّ الذي يملكُ نفسه عند الغضب ، يَحْجُبُ شراً كثيراً سوفَ يَنْدَمُ لو طاوع نفسه وَنَفَّذَهُ .  وحينما يملك نفسه عند الغضب ، سوف يُغْلِقُ باباً كبيراً يُوشك الشيطانُ أن يَدْخُلَ منه . وحينما يملك غضبه ، سوف يحفظُ هيبته أمام كل من علم بحاله أو رآه، فأثْبَتَ للجميع شدَّتَهُ وقوتَهُ مع نفسه ، فلا يزال عظيماً في النفوس يتقي النَّاس غضبه.

أيها الأخوة الأحباب: لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال:  أَوْصِنِى . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » البخاري. قال ابن القيم رحمهُ الله: جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « لاَ تَغْضَبْ » خيري الدنيا والآخرة، لأن الغضب يؤُول إلى التقاطع، فهو مفتاحُ الفتن والآثام، وبريد التفرق والانقسام، وَيُسْتَدَلُّ به على ضعف العقل والإيمان .  إن من أسوأ الغضب ، الغضبَ عند توافه الأمور، فهو يغضبُ بل ويشتد غضبه ، وربما سبَّ ولعن وشتم ، وطلق زوجتَه حينما تأخر غداؤه أو عشاؤه ، أو لم يُجَبْ نداؤه لأول مرةٍ حينما نادى .  وهو يغضبُ لتأخر أولاده عليه ، إذ لم يبادروا الخروج إلى المدرسة ، أو منها وهو ينتظرهم . وهو يغضبُ عند إشارة المرور، حينما فتحت ولم يمش من أمامه، وهو يغاضب صاحب المحل ، وموظفَ الدائرة،  ويغضب إذا نظر إليه أحد ، يسب هذا ويلعن ذاك ، فحياته غضب في غضب، بل نَقَلَ شيئاً من غضبه وجهله ، إلى مكان عبادته ، حتى داخل المساجد يغضب على من يجاوره في الصلاة ، لا يريد أن يلتصق به أحد ، دائما يعاكس الناس ، في البيت غاضب ، وفي الشارع غاضب ، وفي السوق غاضب ، وفي السيارة غاضب ، وفي المخبز غاضب ، وفي محطة الوقود غاضب ، ينتظر من يكلمه أو يشير إليه بيده ، ليصب َّعليه جام غضبه ، وأسعدهم حظاً من أغضبه ، بل أتعسهم من تصدى له ولم يذعن لمراداته بحقٍ أو بباطل .  فبالله عليكم كيف الحياة مع هذا ؟  بل كيف حياة هذا مع نفسه ؟

 عباد الله : إن ضبط النفس ، مقياسٌ لرجولة الإنسان ، يقول عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: {انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع }.  كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد أمرائِه: لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإذا سكن غضبُك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه . وقال ابن القيم رحمه الله:{ دخل الناسُ النارَ من ثلاثة أبواب: بابُ شبهة ، أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة ، أورثت تقديم الهوى على طاعة ومرضات الله ، وباب غضب أورث العدوان على خلق الله  }. قال مجاهدٌ رحمهُ الله: قال إبليسٌ لعنه الله: مهما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني: إذا سَكِرَ أحدُهم أخذناهُ فَقُدْنَاهُ حيثُ شِئْنَا ، وعملَ لَنَا بِمَا أَحْبَبْنَا .  وإذا غَضِبَ قالَ بِمَا لاَ يَعْلَمْ ، وَعَمِلَ بِمَا يندم . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ، إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً }الإسراء53 . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى سيدِنَا محمدٍ وعلَى آلِهِ الطيبينَ الطاهرينَ وَعَلَى أصحابِهِ أجمعينَ، والتَّابعينَ لَهُمْ بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أما بعد فيا عبد الله : يكفي أن تعرف أن الُغضِب غالباً يقود إلى ما يسخط الرحمن ويرضي الشيطان . وهو كثيراً ما يُذِلُّ الإنسان ،لأنَّهُ يَعْقُبُهُ الاعتذار ، واللوم من أعدائه وأصدقائه .  وهو كذلك ، قد يؤثر في البدن أمراضاً لا تنتهي ، فربما أخرس لسانه، أو تعطلت بعضُ أركانه، أو جنَّ في عقل ، أو أصيب بجلطة في قلبه أو بدنه ، أو غير ذلك من الأمراض . حفظ الله الجميع بحفظه ، يقول سبحانه وتعالى {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }الشورى37..

عباد الله : إذا تبين لنا قبيح أثر الغضب، فلعلنا نتساءل جميعا : وكيف يتخلص المسلم من الغضب، سيكون ذلك إن شاء الله ، في خطبة الجمعة القادمة بعونٍ من الله تعالي ،، هذا وأكثروا في هذا اليوم المبارك ، من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا وشفعينا سيدنا محمد فقد أمرنا مولانا جل وعلا بقوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 . اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وارض اللهم عن آله وأصحابه أجمعين وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين ، ودمِّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين، واجعل بلدنا ليبيا أمنا وأمانا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم ولِّ أمُورنا خيارنا ، ولا تول أمورنا شرارنا ، وارفع مقتك وغضب عنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يخشاك ولا يرحمنا يا رب العالمين « اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنَا مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لنا وَتَوَفَّنا إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لنا اللَّهُمَّ نَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِى الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَ نَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِى الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَ نَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِى الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَ نَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ وَ نَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ وَ نَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَ نَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَ نَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِى غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ». اللهم اغفر لنا ولولدينا ، ولمن بنى هذا المسجد ، ومن أنفق وينفق عليه ، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات  ....  

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون