جديد المدونة

لا تغضب (2 )


لا تغضب (2 )

الحمد لله عظم حلمه بنا فستر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، أطاعه الطائعون فشكر، وتاب إليه المذنبون فغفر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفردُ بكلِّ كمال ، والشكر له فهو المتفضل بجزيل النَّوال، وأشهد أن سيِّدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم وشريف الخلال، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرض والمآل . أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه واعبدوه، وراقبوه في خلواتكم وجلواتكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }الحج77.

أيها الأخوة الكرام: تحدثنا في الجمعة الماضية ،عن قبيح أثر الغضب، وتساءلنا في نهاية الخطبة ، عن الكيفية التي يتخلص بها المسلم من الغضب . فنجيب على ذلك بعددٍ من المخلِّصات ، يقي بها المسلم نفسه من أثر الغضب إذا ثار.  

المخلِّص الأول: أن يَتَّعَوُذَ بالله من الشيطان الرجيم قال تعالى {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الأعراف200 . وفي صحيح البخاري عن سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رضي الله عنه قَالَ : اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ ، فَقَالَ النَّبِىُّ  صلى الله عليه وسلم  « إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ، لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ، لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ » .

المخلِّصُ الثاني: الذي يُذهب الغضب ويُخففه ، أن يُغَيِّرَ الغاضب هيئته من القيام إلى الجلوس ، ومن الجلوس إلى الاضطجاع والعكس ، لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: « إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ »سنن أبودود.

المخلِّصُ الثالث: إذا أحسَّ بالغضب فليتوضأ ، لما جاء في حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم« إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ »أبوداود.

المُخَلِّصُ الرابع: أن يتفكر في الأمر الذي أغضبه ، ويقدّرُ لَوْ أَنَّهُ وَقَعَ أكبرَ مما هو عليه ، فإذا غضب لكلمة ماذا لو كانت ضَرَبَه ؟  وإذا غضب لضرْبِه ، ماذا لو كان جرحه ، وسالت على إثرها الدماء ، أو تطوَّر الأمر إلى القتل .

المُخَلِّصُ الخامس: أن يتذكر ما مدح الله تعالى به عباده المؤمنين بقوله لما ذكر الجنة: { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }آل عمران133. ثمَّ بيَّن صفاتِهم فقال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }آل عمران134. ووصف الله المؤمنين بأنَّهم { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }الشورى37.

المُخَلِّصُ السادس: أن يتذكر الإنسان أنه بِغَضَبِهِ وَغِلْظَتِهِ ، تَنْفُرُ عنه النفوسُ وَتُبْغِضُهُ القلوب، وأنَّه بحلمه ولينه ، تنعطف عليه القُلوب ويحبه الناس، فليختر أحبَّ الأمرين إليه . سئل بعضهم : بماذا سُدْتَ قومَك؟ قال: كُنْتُ أَحْلُمُ عن جاهلهم، وَأُعْطِي سائلهم، وَأَسْعَى في حوائجهم . وجاء أنَّ عيسى عليه السلام ، مرَّ بقومٍ من بني إسرائيل فسبُّوه، فردَّ عليهم خيراً ، فقيلَ لَهُ: إنَّهُم يَسُبُّونك، وتقولُ لهم خيراً؟ فقال: كُلٌّ يُنْفِقُ مما عنده.

المُخَلِّصُ السابع : وهو من أنفع ما يُسَكِّنُ الغضب ، وذلك بالاشتغال بذكر الله ، من التَّسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، لأن ذكر الله يطرد الشيطان ويبطلُ تأثيره ، ويجلُب الطمأنينةَ للقلب ، قال تعالى: { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }الكهف24 . قال عكرمة: يعني إذا غضبت . والنفس تهدأ وترتاح من الهم والغضب وَالْحُزْنَ إذا ذكرتِ الله وأثنت عليه وَسَبَّحَتْهُ .

المُخَلِّصُ الثامن: أَنَّ أهم تصرفٍ يقي من شرور الغضب ، لُزُومِ السُّكُوتِ مطلقاً ، وعدمُ الرَّدِّ بالقول أو الفعل ، لأنه إذا تكلم أو فَعَلَ في هذه الحالةِ فَعَقْلُهُ مُغْلَق لا يدرك ما يَصْدُرُ منه ، مما يُعَرِّضه للندم الشديد إذا فاق ، وسُكُوتُه يمنعُ هذا كلَّهُ ، وفي الحديث الذي رواه أحمد : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ ».. فينبغي للمسلم أن لَّا يستجيب لانفعالاته تجاه التَّصرفات الاستفزازية ، ويتحكمَ في ردَّةِ فعله ، لأن بَعْض السُّفهاء يستمتِعُون في استغضابِ الآخرين ، فلا ينبغي للعاقلِ أن يلقِ لهم بالا ، والحكمة مع السُّفهاء تركُ الرَّدِ عليهم ، لأن مجاراتهم ، تُخْرِجُ الإنسان من الوقار والسكينة إلى الجهل ، وليس مع هؤلاءِ علاجٌ أنفعُ من السُّكوت ، فإذا سَكَتَّ سيهدأ الطرف الآخر ويمرُّ الموقف بسلام .

المُخَلِّصُ التاسع : أن يعلم أن ترك الغضب في أمورِ الدنيا ، والتَّحلي بالحلم والعفو ، والإعراض عن الجاهل ، من أجملِ أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي كان لا يغضبُ إلا لله ، كما جاء عن عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ ، إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِى شَيْءٍ قَطُّ ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ ، فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ . متفق عليه. فينبغي للمؤمن أن يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي به.

المُخَلِّصُ العاشر : أن يَتَفَهَّم أن كثيرا من الإساءات الموجهةِ لهُ عفوية ، لا يُقْصَدُ بها إهانَتُهُ والحطُّ من قدره ، وقد تَكُونُ غيرُ مقصودةٍ أصلاً ، وفاعلُها ربما يَمُرُّ بِظَرْفٍ سيء ، أو ضُغوطٍ أثرت على سلوكه وتعامُله ، والله جل في علاه يقول {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }الأعراف199 نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين ، وان يجنبنا الغضب ونتائجَهُ وأضرَارِهِ ، إنه سميعٌ قريب مجيب الدعاء ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، تعظيما لشأنه سبحانه ، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسولهُ الدَّاعِي إلى رضوانه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلَّم تسليما كثيرا . أما بعد: فيا عباد الله : إنَّ المُتأمل في أحوالنا اليوم ، يجد كثيرا منَّا يغلبه الغضب ، ويلعب به الشيطانُ كيفما يشاء ، يجعله يتصرف كالصبي لأتفه الأمور، وقد يصدرُ هذا التصرف ، عن إنسان متعلمٍ ومثقف ، وحريص على الخير، وهذا مؤشرٌ سيءٌ لمستوى أخلاقنا ، وكم يندمِ المرء على تصرفاتٍ وأقوال فعلها حال الغضب ، تسببت في انهيار أسرته وضياع أطفاله ، بسبب كثرة لفظه للطلاق ، أو تسببت له بمشاكل مع أناسٍ كلما رآهم ندم ، وربما تبعها ظلم لأشخاص طيبين غابوا عن النظر فلا يملك إلا أن يدعوا لهم ويستغفر لهم . ونحن إذْ نحذر من الغضب ، ينبغي لنا أن نعرف أنه أمرٌ لابد منه ، وأن المسلم معرضٌ له ، فالرياح تجري بما لا تشتهي السفن ، يستحيلُ أن تكون الأمورَ كما يريد الإنسان ، فقد يجد ما يغضبه من أقرب الناس إليه وأحبِّهم لديه ، قد يكون من أخ شقيق ، أو رفيق صديق ، أو زوج أو ابن أو جار ، أو زميلِ عمل ، وهنا يأتي امتثال المسلم لأمر ربه جل وعلا ، وتوجيهات نبيه صلى الله عليه وسلم ، بامتلاك نفسه وإمساكها عن الغضب ، فلا يقول إلا القول الحسن ، ولا يفعل إلا الفعل الجميل ، فيكون الغضب عند ذلك ، وسيلة لرفع الدرجات ، والحصول على أكبر قدرٍ من الحسنات ، وكما قال الله تبارك وتعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فصلت 33- 34 – 35-36. « اللهم اهْدِنا لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ ، لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا ، لاَ يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ » عباد الله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 ، اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وارض اللهم عن آله وأصحابه أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين ، ودمِّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين، واجعل بلدنا ليبيا أمنا وأمانا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم ولِّ أمُورنا خيارنا ، ولا تول أمورنا شرارنا ، وارفع مقتك وغضب عنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يخشاك ولا يرحمنا يا رب العالمين ، اللهم اغفر لنا ولولدينا ، ولمشايخنا ولمعلمينا ، ولأصحاب الحقوق علينا ، ولمن بنوا هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات..  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون