السرقة والغلول
السرقة والغلول
الحمد
الله الذي حرَّمَ الظُّلم ، ومنع الحقوقَ أن تُهْضَم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك لهُ الإِلَهُ الأعظم ، وأشهدُ أنَّ سيَّدنا ونبيَّنا محمَّداً عبدهُ ورسوله
النَّبِيُّ الأكرم ، عالي الذِّكْر الْأَشَم ، دعا إلى المحبَّة والسِّلم ، ونهى عن
القهر والظُّلم ، أَفْضَلُ مَنْ أَطَاعَ رَبَّهُ وَأَسْلَم ، صلى الله عليه وسلم ،
وعلى آله وأصحابهِ أَهْلِ الشِّيَم والكرم ، تَسَنَّمُوا أَعَالِي الْقِمَم ، بالعزائِمِ
وَالْهِمَم ، ومن سلك سبيلَهم الْأَسْلَمْ ، وطريقَهم الأقوم ، والتابعين ومن تبعهم
.. أما بعد : فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، فاتقوا الله والتزموا بالميثاق
، وتأسَّوْا بأحسنِ الأخلاق ، وتذكَّروا يوم الورود على العليم الخلَّاق ، وانْزعُوا
مِنْ قُلُوبِكُم الخلاف والشِّقاق ، وَتَحَلَّوْا بالصبر والوفاق ، واخشوْا يوم الفراق
، إِذَا التفت السَّاق بالساق ، مالكم من الله من وليٍ ولا واق ، قال الْمُدبِّرُ الرَّزَّاق
: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ }
ص15.
إخوة الإيمان :
جاء الإسلام ليجعل المجتمع آمناً, والمجتمع لا يكون متراصّاً وآمناً ، إلا إذا رُفع
الظلم, ومن جملة الظلم ، أكلُ أموال الناس بالباطل, ومن صوره السرقة التي تفشَّت في
المجتمع, وهي سببٌ لاضطرابه وَلِنَفْيِ الأمان عنه, وتجعل المجتمع في حالة قلق واضطراب
, فقد أدت جريمة السرقة ، إلى جريمة سفك الدماء,
لأن السارق حين يأخذ هذا المال ، فإنه يأخذ ثمرة جهد هذا الإنسان ربما خلال أعوام عديدة
تعب فيها لجمع هذا المال .
وقد
جاء الإسلام لرعاية الناس ولرعاية المال, ومن هنا يقول مولانا عز وجل في حدّ السرقة:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً
مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }المائدة38
.
وإليكم
يا عباد الله : هذا المشهد من مشاهد يوم
الحشر ، مشهدٌ رهيب ، مشهد الغلول ، مشهد من غلّ من أموال الدولة ، غلَّ من أموال الأجيال
، تأتي الأجيال كُلُّهم يحشرهم الله ، يطالِبُون بأموالهم ممن سرقها وغلَّها ، وتخيل
، تخيَّل إنساناً عارياً يوم القيامة ، تُحاصرهُ الملايين جيلاً بعد جيل ؛ أنت الذي
غَلَلْتَ أموالنا ، وسلبت حقوقنا ، ومشهدُ أولئك الذين يأخذون أموال الناس ويسطون
على ممتلكاتهم ، ومحالِّهم وسياراتهم ، ينتزعونها منهم بالقوة ، منهم من يقتلونه ،
ومنهم من يصيبونه فيقع تحت الإعاقة الدائمة ، هؤلاء يحشرون في هيئةٍ تشهد عليهم بالخيانة
والغُلُول أمام الخلق أجمعين ، فمن غلَّ شيئاً في حياته ، ولم يُرْجِعْهُ أو يتوب منه
، فَسَيُظْهِرُهُ اللهُ يوم الحشر، وَسَيُشَهِّرُ به أمام الناس ، زيادةً للنكاية به
، فَيَحْمِلُ مَا غَلَّهُ وَ مَا سَرَقَهُ في الدنيا ، على ظهره يوم القيامة ، قال
الله تعالى: { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ تُوَفَّى
كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }آل
عمران161.
ترى
رجلاً ينطلق في أرض المحشر، وهو يحمل على كتفيه
ما أخذه في هذه الدنيا بغير حق، يحمل على كتفيه ما سرقه، من سرق بيضة، من سرق دجاجة،
من سرق نعجة، من سرق بقرة، من سرق ناقة، من سرق سيارة ، من سرق أموال ، من سرق
بضاعة ،، اسمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي رواه مسلمٌ في
صحيحه ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ
ثُمَّ قَالَ « لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِىءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ
بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِى. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ
لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِىءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِى.
فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ
يَجِىءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَغِثْنِى. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ
أَحَدَكُمْ يَجِىءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِى. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِىءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ
تَخْفِقُ - أي ماكتب من الحقوق في ورق - فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِى.
فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ
يَجِىءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ – أي الذهب والفضة والمال -
فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِى فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ
أَبْلَغْتُكَ ».
فعليك
أيها المسلم : أن تتخلص من المظالم ، ومن الغدر والخيانة، وتخفف عن نفسك الأثقال ، لأَنَّ العقبة كأداء لا
تستطيع صُعودها، عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« إِنَّ أمامكم عَقَبَةً كؤوداً لاَ يَجُوزُهَا
الْمُثْقَلُونَ » السيوطي.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ
« الْغَادِرُ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ
فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ » البخاري .
وقال عليه الصلاة والسلام « لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ
لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ أَلاَ وَلاَ غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ
» مسلم . أينما يتجه عَلَمٌ يُرفرف
وراءه ، تاريخ الغدرة ، ونوعها ، ولمن حصلت ، واسم صاحبها ، ونتائجها ، وحسابها ، وعذابها
في جهنم ، أينما يذهب يقرؤها القاصي والدَّاني في عرصات يوم القيامة من قريب ومن بعيد،
غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ . ولا يظن الغادرون في الأعراض والأموال والأنفس ، والمؤسسات
والمناقصات إلى غيره ، أنهم سَيُفَوِّتُونَ على الله يوم القيامة ، بل سينصب له لواء
، لأنَّه لما غدّر أَخْفَى غدّرته ، فيفضحه الله فيعلنها في لواء يُرفرف . { فَكَيْفَ
إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }آل عمران25.
عبادَ الله :
إن إقامة حدِّ الله في السرقة ، جامِعٌ بين أمرَين: رَدعٌ للمجرمين وإيقافٌ لهم عند
حدِّهم حتى يرتَدِعوا ، ويعلَمُوا أنّه لا مَناصَ مِن تنفيذِ حدودِ الله، فتدعُو إلى
ارتداع المجرمين وإمساكِهم عن شرّهم، وثاني ذلك أنَّ الحدودَ طُهرة لمن أقيمَت عَليه،
تُمحِّصه وتطهِّره من جريمته، ولذا قال الله في السّارق: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }المائدة39
. إذًا السَّارِقُ ظالم، أكَل مالاً بغير حقّ، وأخذ ما لا يستحقّ، وعطَّل قواه التي
لو وجَّهها لكان صانعًا عامِلاً منتجًا، لكنّ الرذيلةَ في قلبه هبطت به إلى الحضيضِ،
فجَعلته يرتقبُ أموال الناس ، فيسرِقها ويقتل أصحابها والعياذ بالله . لأنَّ من تاب
من ظلمه وتابَ من جُرمه ، فإنَّ الله يتوب عليه ويبدِّل سيئاتِه حسنات، لكن البلاءُ
الاستمرار على الجرائمِ وعدَم الإقلاع عنها والاعتياضِ بها عن المكاسب الشريفةِ والمكاسب
الطيبة ، مكاسبِ ذوِي الهمَم العالية ، الذين لا يرضَونَ بالدّنايا، ولكن يزاحمون في
ميادين العمل ، فيُنتِجون ويحقِّقون خيرًا لهم ولأسَرهم، أمّا السُّرَّاق وأمثالهم
، فهم والعياذ بالله يلهَثون كلَّ ساعةٍ، لا يملأ قلوبَهم شيء ، ولا يقنِعهم شيء؛ لأنهم
والعياذ بالله ، سلَكوا مسالكَ خطيرة ومسالِك خبيثة ، نسأل الله أن يعافيَنا وسائرَ
المسلمين من كلِّ بلاء. وأن يوفّق الجميعَ لما يرضيه، وأن يعصمنا وإياكم من المكاسب
الخبيثة، وأن يرزقنا وإياكم الصدقَ في الأقوال والأعمال. أقول قولي هذا، وأستغفر الله
العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور
الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى التَّابِعِينَ
لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. فيا عباد الله : علينا أن نَحْذَر من كل
مكسبٍ سيّئ، وَأَنْ نُرَبِيَّ شبابنا من صِغَرهم، ونُعوِّدهم على المروءة والشهامة،
وأن نجنِّبهم طريقَ الرّذيلة، وأَن نغنيهم بما يكفّهم عن هذه الرذيلةِ، وأن لا نُقِرّهم
على خطأ في هذا الباب، خذُوا على أيديهم، ووجِّهوهم التوجيهَ السّليم، فإن نشؤُوا على
العفّةِ وَسُمًوِّ الهمّة نشؤوا نشأةً صالحة، وإن نشؤوا على هذه الرذائل سيطَرَت هذه
الأمور على قلوبهم وأفكارهم، فأعيَاكم أن تخلِّصوهم منها، فربّوا الصّغار على الخيرِ،
وحذِّروهم من الكسَل، ولا تدَعوهم في البيوت نومًا في النّهار وسهرًا في الليل ، وصِحَابٍ
تدرِّب على كلِّ بلاء، خذوا على أيديهم ووجِّهوهم لعلَّ الله أن ينشِئهم على الخير
والصلاح، فإنَّ العملَ شرَف للإنسان، والطّرُق الرذيلة هوانٌ لابن آدم، عافانا الله
وإيّاكم من ذلك . وكان الله في عون من فقد السيطرة على أبنائه ، أهملهم في الصغر ،
فضاعوا منه في الكبر ، وَسَيُسْأَلُ عنهم عند مليكٍ مقتدر ، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }غافر17 . ثم صلوا وسلموا على
من أمرنا بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
} . اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدك ورسولِك سيدنا محمّد ، وعلى آله وصحبه
وسلم . اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ صِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ ، وَحُسْنَ الظَّنِّ
بِكَ ، والرِّضَا بعطائِكَ ، اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ
وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ؛ اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ
عَلَى الرُّشْدِ، وَنسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، يا
أرحم الراحمين يا رب العالمين ، اللهم
احفظنا وبلادنا وبلدان العرب والمسلمين ، من كل همٍ وغمٍ يارب العالمين ، اللهم ول
أمورنا خيارنا ، ولا تول أمورنا شرارنا ، وارفع مقتك وغضب عنا يا رب العالمين ،
اللهم اجعل للإسلام والمسلمين عزةً وقُوةً ومنعة ، وللظالمين والمفسدين ذِلَّةً
ومهانةً يا قوي يا متين. اللهم اغفر لنا
ولولدينا ، ولمن بنى هذا المسجد ، ومن أنفق وينفق عليه ، ولمن صلى فيه ، وعمل فيه ،
ونظر إليه بإحسان يارب العالمين .
ليست هناك تعليقات