جديد المدونة

الصبر ثوابه وفضله4


الصبر ثوابه وفضله4

إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيَّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ سيَّدنا ونبيَّنا محمَّداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتَّابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين .. أما بعد : فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله القائل سبحانه { وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال46.

معاشر المسلمين : تحدثنا في الجمُعة الماضية ، عن الأمور التي تساعد المسلم على الصبر . واليوم سنتحدث بعون الله ، عن ثمار الصَّبر وفوائده . 

عباد الله : إنَّ للصبر ثمرات وفوائد عظيمة أولها : أنَّ الصابرون هم أهل الفوز والنَّجاة : قال تعالي عن المؤمنين الفائزين بالنعيم المقيم في الآخرة :{إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ } 111 سورة المؤمنون . وكذلك بشرنا رَبُّنَا جلَّ وعلا بما يقال لأهل الجنَّة يوم القيامة { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }24 سورة الرعد . وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ ، قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِى ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ ؛ فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ ؛ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِى ؟ فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ ؛ فَيَقُولُ اللَّهُ ابْنُوا لِعَبْدِى بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ».

إِذَا مَا أَتَاكَ الدَّهْرُ يَوْمًا بِنَكْبَةٍ

                فَافْرِغْ لَهَا صَبْراً وَوَسِّعْ لَهَا صَدْراً

فَإِنَّ تَصَارِيفَ الزَّمَانِ عَجِيبَة

                فَيَوْماً تَرَى يُسْراً وَيَوْماً تَرَى عُسْراً

ومن ثمرات الصبر أيها الإخوة : أنَّ الصابرون دائما في معيَّة الله وفي محبته : قال تعالى : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }249 سورة البقرة . وقوله تعالي :{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِىءٍ قُتِلَ ، مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }146آل عمران.

ومن ثمرات الصَّبر عباد الله : أَنَّهُم يُوَفَّوْنَ أجرهم بغير حساب ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر:10. قال الإمام الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال لهم، وإنما يُغْرَفُ لهم غَرْفًا . قال بعض السلف: إذا أعجبتك نفسك في قيام الليل ، فتذكر من هم أرفعُ منزلةً منك، نائمون على فرشهم ، هم أهل البلاء الصابرون .

وروى الحافظ أبو نعيم فقال : لما تُوُفِيَّ ذَرُّ بْنُ عُمَرَ الْهَمَدَانِي، جاءه أبوه أو جاء أبوه ، فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون ، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله ، والله ما ظلمنا ولا قهرنا ولا ذهب لنا بحق، وَمَا أُرِيدَ غَيْرُنَا بِمَا حَصَلَ لِذَر، ومالنا على الله من مأثم، ثُمَّ غَسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلى المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بِي بارًا، وَكُنْتُ لَكَ رَاحِمًا، ومالي إليك من وحشة ، ولا إلى أحدٍ بعد الله فاقة، والله يا ذر ، مَا ذَهَبْتَ لنا بِعِزٍّ، وما أبقيت علينا من ذُل، ولقد شغلنيِ وَاللهِ الْحُزنُ لك ، عن الحزن عليك، يا ذر – واللهِ  لولا هولُ يومِ المحشر، لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت. يا ليت شعري ماذا قيل لك ؟ وبماذا أجبت؟ ثم يرفع يديه باكيًا، اللهم إنَّك قد وعدتني الثواب إن صبرت ، اللهم مَا وَهَبْتَهُ لي من أجر، فاجْعَلْهُ لِذَرٍّ صلةً مني ، وتجاوز عنه ، فأنت أرحم به مني ، اللهم إنِّي قد وهبت لِذَرٍّ إساءته ، فهب له إساءته ، فأنت أجود مني وأكرم ، ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته. انصرف وهو يقول: يا ذر: قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك ، والله يرحمُنا وإياك . قال الشاعر:

مَن يَلزَمِ الصَّبرَ يَستَحسِن عَواقِبَهُ

                   وَالماءُ يَحسُنُ وَقعاً عِندَ كُلِّ ظَمِ

لَو لَم يَكُن فِي اِحتِمالِ الصَّبرِ مَنقَبةٌ

                   لَم يَظهَرِ الفَرقُ بَينَ اللُّؤمِ وَالكَرَمِ

ومن ثمرات الصبر ، أن الله تعالى يعوض الصابرين خيرا: ففي سنن ابن ماجة عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَىُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً ؟ قَالَ « الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ رِقَّةٌ ، ابْتُلِىَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ». وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ ، فَيَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْنِي خَيْراً مِنْهَا. إِلاَّ أَجَرَهُ اللَّهُ فِى مُصِيبَتِهِ وَخَلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا ». قَالَتْ أمُّ سلمة : فَلَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو سَلَمَةَ ، قُلْتُ مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِى سَلَمَةَ ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِي فَقُلْتُهَا ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِى مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِى خَيْراً مِنْهَا. قَالَتْ فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ومن ثمرات الصبر: أنَّه سبب لتكفير السيئات وزيادة الحسنات: قال بعض السلف: لولا المصائب لوردنا الآخرة مفاليس، في صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  قَالَ « مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ » . قال الشاعر:

اصبرْ لكل مُصيبةٍ وتَجلَّد

                       واعلم بأن المرءَ غير مُخَلَّدِ

أَوَ مَا تَرى أنَّ الْمَصائبَ جَمَّةً

                     وترى المنيَّة للعباد بِمَرْصَدِ

من لم يُصبْ مِمَّنْ تَرى بِمصيبةٍ?

                      هذا قَبِيلٌ لَسْتَ فيه بِأَوْحَد

وإذا أتتكَ مُصيبةٌ تَشَجَّي بها

                     فاذْكر مُصابك بالنَّبي محمد

ومن ثمرات الصبر إخوة الإيمان : أنّه سببٌ لهداية القلوب : وزوال قسوتها، وحدوث رقتها وانكسارها، فكم من غافلً رجع إلى ربه عندما أصيب بمرض ؟ كم من لاه أقبل على مولاه عندما أصيب بفقد عزيز، ويقول سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }التغابن11. قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ، ومعنى الآية: أن من أصابته مصيبة ، فعلم أنها من قدر الله فصبر واحتسب ، واستسلم لقضاء الله ، هدى الله قلبه ، وعوضه عما فاته من الدنيا هدًى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه خيرًا . أصيب ابن عباس ببصره فأنشد :

إِنْ يَأْخُذِ اللهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا

                    فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ

قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ

                 وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ

ورأى رجلٌ ، رجلاً فقيرًا مريضًا، كفيفًا مقعدًا وهو يردد: الحمد لله الذي فضلني على كثير من عباده فقال: يرحمك الله وبماذا فضلك ؟ قال: رزقني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وجسدًا على البلاء صابرًا. فاللهم اجعلنا من الصابرين الشاكرين ورضنا بقضائك , واجعلنا هداة مهدين مهتدين . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد سيدنا أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيا عباد الله : تهلُّ علينا هذه الأيام ، أياما فاضلة مباركة ، عظَّمها الله وفضَّلها وأعلى شأنها ، وهي الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة ، في سنن الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ ». فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- « وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ ». فيا أخي المسلم اغتنم هذه الأيام ، بكل عمل صالح يقربك إلى الله عز وجل ، كالصيام ، والذكر ، والدعاء ، والصدقات ، وغيرها من أعمال البِّر ، في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ ». نسأل الله تعالى أن يوفقنا لكل عمل صالح يقربنا إليه ، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا ، إنه سميع قريب مجيب الدعاء .

عباد الله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين ، اللهم اجعل بلدنا ليبيا سخاءً رخاءً أمنا وأمانا ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، وعاف مبتلانا ومبتلى المسلمين ، واهد السفيه والضال إلى الطريق المستقيم ، اللهم اغفر وارحم لمن أسسوا هذا المسجد المبارك ، وبارك فيمن صلى وعمل فيه وأنفق وينفق عليه ، ونظر إليه بإحسانٍ يا أكرم الأكرمين ، اللهم توفَّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين ، واغفر لنا ولولدينا ولجميع المسلمين يا رب العالمين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ..

  

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون