جديد المدونة

الصبر ثوابه وفضله 3


الصبر ثوابه وفضله 3

الحمد لله رب العالمين ، خلق النَّاس فاحصاهم عددا ، فكلهم آتيه يوم القيامة فردا ، عزَّ سُلْطَانُهُ عِزًّا وفخراً ومجداً ، ملك فقهر ، وتأذَّن بالزيادة لمن شكر ، ووعد الجنَّة من صبر، وتوعَّد بالعذاب لمن جحد وكفر ، سبحانهُ ما اتَّخذ صاحبةً ولا ولدا ، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ سيَّدنا ونبيَّنا محمدا عبده ورسوله ، فاق النَّبيين منزلة واغلاهم فردا ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجهم واقتدى . أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله القائل سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ، وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }آل عمران200 .

 معاشر المسلمين : تحدثنا في الجمُعة الماضية ، عن أقسام الصبر ، وعن مراتب الناس حال وقوع المصيبة . واليوم سنتحدث بعون الله ، عن الأمور التي تساعد المسلم على الصبر . 

عباد الله : إِنَّ أول هذه الأمور التي تساعد المسلم على الصبر : أن يعلم المصاب أن الذي ابتلاه بالمصيبة ، هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنَّه سبحانه لم يرسل البلاء لِيُهْلِكَهُ وَلاَ ليعذِّبَه، وإنما ابتلاه به ليمتحن صبره، ورضاه عنه وإيمانه، ويسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحًا على بابه ، لائذًا بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعًا قصص الشكوى إليه . إن كان غافلاً ، فحريٌّ به أن يرجع إلى الحق، وإن كان تقيًا ، كان ذلك سببًا لرفع درجاته، قال الفضيل بن عياض: إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء ، كما يتعاهد الرجل أهله بالخير، قال سبحانه { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } البقرة: 155.

قال الشاعر:

وَكَمْ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّ فِي كُرْبَةٍ

                          يَكَادُ الرَّضِيعُ لَهَا يَشِيبُ

فَمَا أَصْبَحَ الصُّبْحُ إِلَّا أَتَى

                        مِنَ اللهِ نَصْرٌ وَفَتْحٌ قَرِيبُ

ومن الأمور التي تساعد المسلم على الصبر : أن المصيبة قد قدر وُقُوعَهَا العليم الحكيم ، قال سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ ، إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحديد: 22. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ..». رواه مسلم . وعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ ، فَقَالَ : « هَلُمُّوا إِلَيَّ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا ، فَقَالَ : هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي ، أَنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ ، أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ.» رواه البزار .

قال الشاعر:

سَأَصْبِرُ لِلزَّمَانِ وَإِنْ رَمَانِي

                      بِأَحْدَاثٍ تَضِيقُ بِهَا الصُّدُورُ

وَأَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْراً

                     يَدُورُ بِهِ الْقَضَاءُ الْمُسْتَدِيرُ

ومن الأمور التي تساعد المسلم على الصبر :أن الصبر على المصيبة ، كنزٌ عظيم من كنوز الخير، لا يعطيهِ اللهُ إلا لعبدٍ كريم , فالصبر سمةُ الأنبياء والصالحين قال سبحانه: { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } الأنبياء: 85 . وقد أثنى الله على أيوب عليه السلام ، لما ابتلي بالمرض فصبر: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } ص: 44 ، قال ابن القيم في عدة الصابرين: (فأطلق عليه نِعْمَ الْعَبْدُ لكونه وجده صابرًا ، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابْتُلِي ، فإنَّه بئس العبد).

ومن الأمور التي تساعد المسلم على الصبر : العلم بأن المصاب ، ليس أول من أصيب بهذه المصيبة، وهذا مما يهون وقع المصيبة عليه ، فمن فقد ولده فليحمد الله أَنْ أَبْقَى له أولاده الآخرون، ومن أصيب بمرض ، فليتذكر من هو أشد منه مرضًا. قال شريح رحمه الله: (إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني).

ومن الأمور التي تساعد المسلم على الصبر : ومما يهونها عليه ، أن الله سبحانه قد أراد بعبده المبتلى خيرًا ، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ ، عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ ، أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ ، حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » أخرجه التِّرْمِذِي. روي أن أحدَ الصالحين حينما أخبروه بموت ولده ، نزل من على دابته وخر ساجداً لله , فلما سألوه قال لهم : ألم يقل الله تعالى : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } .

ومن الأمور التي تساعد المسلم على الصبر : « .. أَنَّ فِى الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ». كما قال ذلك صلى الله عليه وسلم، ويشمل النصر في الجهادين جهاد العدو الظاهر، وجهاد العدو الباطن، فمن صبر فيها ، نُصِرَ وَظَفِرَ بِعَدُوِّهِ، ومن لم يصبر فيها وجزع وقهر، صار أسيرًا لعدوه، أو قتيلاً له . ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب ، واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى ، حصل للعبد الإياسُ مِنْ كَشْفِهِ، من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله ، ومن أعظم الأسباب التي تُطْلَبُ بها الحوائج ، فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } الطلاق: 3. ويروى لأبي محجن الثقفي أنه قال :

عسى فرجٌ يأتي بهِ اللهُ إنَّه

                      لَهُ كُلَّ يومٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ

عسى ما ترى ألاَّ يدوم وَأَنْ

                  تَرَى لَهُ فَرجاً ممَّا ألحّ به الدَّهرُ

إذا اشتدَّ عسرٌ فارج يُسراً فإنَّهُ

                 قَضَى اللهُ أَنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ

روى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ ، يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا ، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ .. نسأل الله تعالى أن يجعل لنا من كل همٍّ فرجا ومن كل ضيق مخرجا ، وأن يجعل لنا بعد العسر يسر . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور ارحيم ...

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.    أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : يروى عن الفضل بن سهل ، أنَّه قد مرض بخراسان، وأشرف على التلف ، فلما أصاب العافية جلس للناس، فدخلوا عليه ، وهنوه بالسلامة، وتصرفوا في الكلام. فلما فرغوا من كلامهم ، أقبل على الناس، وقال: إن في العلل لَنِعَماً لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها: تمحيص الذنوب، والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، والحض على الصدقة. وفيات الأعيان،4/42-43. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر18 .

عباد الله : هل للصبر ثمارٌ وفوائد ، سنعرف ذلك في خطبة الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى : هذا وصلوا وسلموا على من أمرنا من ربنا بالصلاة والسلام عليه، بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 .. اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد ، وارض اللهم عن آله ، وعن سائر الصحابة الأكرمين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين  . اللهم احفظ بلدنا ليبيا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ومن الأشرار والمفسدين والمخربين ، وحقق لبلادنا الأمن والأمان ، والراحة والاطمئنان ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات،  وأدخل اللهم في عفوك وغفرانك ورحمتك آباءنا وأمهاتنا وجميع أرحامنا ومن له حق علينا. اللهم إنا نسألك المغفرة والثواب لمن بنوا هذا المسجد ، ولكل من عمل فيه صالحا وإحسانا، واغفر اللهم لكل من بنى لك مسجدا يذكر فيه اسمك ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم .

 

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون