جديد المدونة

الصبر ثوابه وفضله 2


الصبر ثوابه وفضله 2

الحمد لله الذي وعد الصابرين أجرهم بغير حساب، وأثاب الشَّاكرين على النِّعم بدوامها والازدياد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، من غير شك ولا ارتياب، وأشهد أن سيَّدنا ونبيَّنا محمدا عبده ورسوله ، سيِّد الرُّسل، وخير العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه ، والتَّابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب ، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد: فيا عباد الله ، أوصيكم ونفسي بتقوى الله القائل سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة153.

معاشر المسلمين: تحدثنا في الجمعة الماضية ، عن الصبر ومعناه ، وذكرنا بعضا من فضائله ، وكيف أنَّ الله جل وعلا ربط الصبر وقرنه بالأخلاق والفضائل ،، واليوم نكمل بقية الحديث عن الصبر.

عباد الله : إن للصبر أقساما ذكرها العلماء، وهي ثلاثة أنواع : صبرٌ على طاعة الله ، وصبرٌ عن معصية الله ، وصبرٌ على أقدار الله . فالصبر على طاعة الله ، أن يَحْبِسَ الإنسان نفسه على العبادة، ويؤدّيها كما أمره الله تعالى ، وأن لا يتضجر منها، أو يتهاون بها أو يدعها، فإنَّ ذلك عنوان هلاكه وشقائه . وأما الصبر عن معصية الله ، فأن يحبس الإنسان نفسه عن الوقوع فيما حرَّم الله عليه ، مما يتعلق بحق الله أو حقوق عباده ، وأما الصبر على أقدار الله ، فهو التَّجلد لكل ما يصيب الإنسان ، من المصائب والمحن والبلايا ، وهذا أمر يجرى بغير اختيار العبد ، ولا كسب له فيه ، فليس له فيه حيلةٌ غير الصبر. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم« إنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونَ لَهُ عِنْدَ اللهِ الْمَنْزِلَةَ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ ، فَمَا يَزَالُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ ، حَتَّى يُبَلِّغُهُ إِيَّاهَا » رواه ابن حبان .

والناس يا عباد الله : حال المصيبة على مراتب أربع  

المرتبة الأولى: التَّسَخط ، وهو على أنواع: النوع الأول: أن يكون بالقلب، كأن يتسخّط على ربه ويغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الحج11 . النوع الثاني: أن يكون التسخّط باللسان ، كالدُّعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام . والنوع الثالث: أن يكون التسخّط بالجوارح ، كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام منافٍ للصبر الواجب . في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضى الله عنه قَالَ ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ » .

اصبر ففي الصبر خيرٌ لو عَلِمْتَ به

                   لَطِبْتَ نفساً ولم تجزع من الألــم

واعلم بأنَّك لو لم تصطبر كرمـــــاً

                  صَبَرْتَ رُغْماً على ما خُطَّ بالقلم

روي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجلٌ يقال له : معاذ الكبير . أصابته مصيبة ، فجزع منها وأمر بإحضار النائحات وَكَسْرِ الأواني . فَسَمِعَهُ حاتمُ فذهب إلى تعزيته مع تلامذته ، وأمر تلميذاً له . فقال : إذا جلست فاسألني عن قوله تعالى : {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ }العاديات6 . فسأله فقال حاتم : ليس هذا موضع السؤال . فسأله ثانيا ، وثالثا . فقال : معناه أنَّ الإنسان لكفور ، عَدَّادٌ للمصائب ، نَسَّاءٌ للنِّعم ، مِثْلُ مُعَاذٍ هذا ، إن الله تعالى متَّعَه بالنِّعم خمسين سنة ، فلم يجمع النَّاس عليها شاكراً لله عز وجل . فلما أصابته مصيبة ، جمع النَّاس يشكو من الله تعالى ؟!!. فقال معاذ : بلى ، إنَّ معاذاً لكنود عَدَّادٌ للمصائب ، نَسَّاءٌ للنِّعم ، فأمر بإخراج النائحات وتاب عن ذلك .

والمرتبة الثانية من مراتب الناس حال المصيبة : الصبر، وهو كما قال الشاعر:

وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقُهُ

                       لكنْ عَوَاقِبَهُ أَحْلَى من العَسَلِ

فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه، لكنه يَحْتَمِلُهُ، وهو يكره وقوعه، ولكن الصبر يحميه من التسخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده ، وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصَّبر فقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال:46.

إذا ما ألمَّت شدةٌ فاصطبر لها

                فخيرُ سلاحِ المرءِ في الشِّدَّةِ الصَّبْرُ

وإنّي لأَستحي من اللهِ أَنْ أُرَى

                  إِلَى غَيْرِهِ أَشْكُو وإن مَسَّني الضُرُّ

عَسَى فَرَجٌ يأتي به الدَّهْرُ حازماً

                 صَبوراً فإن الخيرَ مِفْتاحُه الصبرُ

فَكَمْ مِنْ هُمومٍ بعد طُولٍ تكشَّفت

                 وآخرُ معسورُ الأمور له يُسْرُ

المرتبة الثالثة: الرضا، وهي بأن يرضى الإنسان بالمصيبة، بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذهِ مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح ، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه، لكن صبر عليها.

وقال إبراهيم بن العباس:

وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يضيقُ بها الفتى

                      ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها

                     فرجت وكنت أظنها لا تفرج

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ }محمد31 . نسأل الله تعالى أن يعافينا من كل بلاء ، وأن يجعلنا من الصابرين المحتسبين . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . أما بعد: فيا عباد الله : وأما المرتبة الرابعة من مراتب الناس حال المصيبة هي : الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة ، حيث عرف أن هذه المصيبة ، سببٌ لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته ، في مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَا يُصِيبُ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ ، وَلاَ غَمٍّ وَلاَ أَذًى ، حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ». يقول أحد المعزين في لطائف التعازي ، لقاضٍ من قضاة بلخ توفيت أمه فجزع لموتها ، قال له: إن كانت وفاتُها عظةٌ لك، فأعظمَ الله أجرك على موتها، وإن لم تكن لك عظة، فأعظم الله أجرك على مَوْتِ قلبك، ثم قال: أيها القاضي: أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ أَحَدٌ حُكْماً، فكيف بحكمٍ واحدٍ عليك من الواحد الأحد ، ترده ولا ترضى به؟ فَسُرِّيَ عَنْهُ وَكُشِفَ ما به ،وقال: تعزيت تعزيت.

 تَعَزَّ بِحُسْنِ الصَّبْرِ عَنْ كُلِّ هَالِكٍ

                   فَفِي الصَّبْرِ مَسْلَاةُ الْهُمُومِ اللَّوَاَزِمِ

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَسْلُ اصْطِبَارًا وَخَشْيَةً

                   سَلَوْتَ عَلَى الْأَيَّامِ مِثْلُ الْبَهَائِمِ

وَلَيْسَ يَذُودُ النَّفْسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا

                  مِنَ النَّاِس إِلاَّ كُلُّ مَاضِي الْعَزَائِمِ

عباد الله : ماهي الأمور التي تساعدنا على الصبر ، عندما نبتلى بالمصائب ؟  سيكون هذا موضوع خطبتنا القادمة إن شاء الله تعالى . هذا وصلوا وسلموا على من أمرنا من ربنا بالصلاة والسلام عليه، بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 .. اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد ، وارض اللهم عن آله ، وعن سائر الصحابة الأكرمين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين  . اللهم احفظ بلدنا ليبيا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ومن الأشرار والمفسدين والمخربين ، وحقق لبلادنا الأمن والأمان ، والراحة والاطمئنان ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ صَبْراً يُبَلِّغُنَا ثَوَابَ الصَّابِرِينَ لَدَيْكَ، وَشُكْراً يُبَلِّغُنَا مَزِيدَ الشَّاكِرِينَ لَكَ، وَتَوْبَةً تُطَهِّرُنَا بِهَا مِنْ دَنَسِ الآثَامِ، حَتَّى نَحُلَّ بِهَا عِنْدَكَ مَحَلَّ المُنيبِينَ إِلَيْكَ، فَأنْتَ وَلِيُّ جَمِيعِ النِّعَمِ، وَأَنْتَ مَلاَذُنَا فِي كُلِّ شِدَّةٍ وَكَرْبٍ وَضُرٍّ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نُفوساً مُطْمَئِنَّةً تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ أَشَارَتْ إِلَيْهِمْ أعْلاَمُ الْهِدَايَةِ، وَوَضَحَتْ لَهُمْ طَرِيقُ النَجاةِ، وسَلَكُوا سَبِيلَ الإِخْلاَصِ وَالْيَقِينِ. اللَّهُمَّ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ النَّارِ، وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالْبَوَارِ، وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ الْقَرَارِ، وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَمَغْفِرَتِكَ، يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

 

 

 

 

 

 

ولسائر بلاد المسلمين ، ربنا اجعل لنا من لدنك ولياً ، واجعل لنا من لدنك نصيرا ، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين  . اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا حاجة إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات،  وأدخل اللهم في عفوك وغفرانك ورحمتك آباءنا وأمهاتنا وجميع أرحامنا ومن له حق علينا. اللهم إنا نسألك المغفرة والثواب لمن بنوا هذا المسجد ، ولكل من عمل فيه صالحا وإحسانا، واغفر اللهم لكل من بنى لك مسجدا يذكر فيه اسمك ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون