جديد المدونة

الصبر ثوابه وفضله1


الصبر ثوابه وفضله1

الحمد لله الذي يُعطى ويمنع ، وَيَخْفِضُ ويرفَع , ويَضُر وينفع ، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما يمنع . يكور النَّهار على الليل ويكور الليل على النَّهار . يعلم الأسرار ، ويقبل الأعذار ، وكل شيء عنده بمقدار ، سبحانه كل شيء خاشع له، وكل شيء قائم به، غِنى كلُّ فقير، وعزُّ كلِّ ذليل، وقوةُ كلِّ ضعيف، ومفزع كل ملهوف . من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، بشر الصابرين في كتابه الكريم فقال :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } 155-156-157 سورة البقرة . وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وحبيبه ، أرسله ربه رحمة للعالمين ، وإماماً للموحدين ، وقدوة للمتقين الصابرين ، فقال لنا مرشداً ومعلماً : « مَا أُعْطِيَ أَحَد عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصبْر» متفق عليه . صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين , الصابرين المخلصين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد فيا عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله يقول سبحانه وتعالى  { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }يوسف90 .

معاشر المسلمين : إنَّ الصبر شعبةٌ من شعب الإيمان , بل كما قيل : الإيمان نصفان ؛ نصف صبر، ونصف شكر . وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن الكريم ، في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له ، بل قرنه الله تعالى بالعبادات والأخلاق والفضائل . فقرنه بالصلاة فقال جلَّ شأنه : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} 45 سورة البقرة . وقرنه بالتسبيح والاستغفار فقال :{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ }48-49 سورة الطور . وقرنه باليقين فقال : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (24) سورة السجدة. وقرنه بالتوكل فقال : { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (42) سورة النحل . كما ربطه بالشكر فقال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }(5) سورة إبراهيم . وربطه بالتقوى فقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (186) سورة آل عمران . وربطه كذلك بالحق فقال : { وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } سورة العصر . وربطه بالرحمة فقال :{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } 17-18 سورة البلد . وكذا ربطه بالجهاد في سبيل الله تعالى فقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }(110) سورة النحل .

والصابرون هم من أعظم الناس جزاءً , ومن أكثرهم سعادة يوم القيامة قال تعالى { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }(10) سورة الزمر . وفي صحيح مسلم ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ « مَا يَكُنْ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ ، فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ ». وأخرج أبو نعيم في الحلية ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ أَهْلُ الْفَضْلِ ؟ فَيَقُومُ نَاسٌ وَهُمْ يَسِيرٌ ، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ سِرَاعًا ، فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ، فَيَقُولُونَ : إِنَّا رَأَيْنَاكُمْ سِرَاعًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَمَنْ أَنْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْلُ الْفَضْلِ ، فَيَقُولُونَ : وَمَا فَضْلُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنَّا إِذْ ظُلِمْنَا صَبَرْنَا ، وَإِذَا أُسِيءَ إِلَيْنَا عَفَوْنَا ، وَإِذَا جُهِلَ عَلَيْنَا حَلُمْنَا ، فَيُقَالُ لَهُمُ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : أَيْنَ أَهْلُ الصَّبْرِ ؟ فَيَتَقَدَّمُ نَاسٌ وَهُمْ يَسِيرٌ ، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ سِرَاعًا ، قَالَ : فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ، فَيَقُولُونَ : إِنَّا نَرَاكُمْ سِرَاعًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَمَنْ أَنْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْلُ الصَّبْرِ ، فَيَقُولُونَ : وَمَا صَبْرُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنَّا نَصْبِرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكُنَّا نَصْبِرُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَيُقَالُ لَهُمُ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ».  

فيا أيها المسلم : إذا ادْلَهَمّت الأمور ، واسودت الحياة ، وعظمت المصائب ، وكثرت الرزايا ، فالصبر ضياء . إذا نزل المكروه ، وحَلّ الأمر المخوف ، وعظم الجزع ، واحتيج لمصارعة الحُتُوف ، فالصبر التجاء ، إذا انسدت المطالب ، وهيمن القلق ، واشتد الخوف ، وعظمت الكربة ، فالصبر دواء. إذا أصبح الدين في غربة ، والإسلام في كُربة ، وعمت المعاصي ، وعظمت الشبهات والشهوات، فالصبر عزاء . نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين إذا عظمت المصائب ، وكثرت الرزايا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ،، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: : فيا عباد الله : ما هو الصبر وما معناه : الصبر : هو حبس النفس عن الجزع ، والتسخط ، وحبس اللسان عن الشكوى ، وحبس الجوارح عن كل فعل محرم ، كلطم الخدود ، وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور. وهناك الصبر الجميل الذي قال فيه الله تعالى : { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً }المعارج 5.

قيل الصبر الجميل هو: الصبر الذي لا يكون معه تبرم ولا تسخط ولا شكوى لغير الله ولا ملل ولا اعتراض علي أمر الله ولا انقطاع عن طاعة الله ولكن الصبر الذي يصاحبه الإيمان بقدر الله والرضا به وأن يؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطئه لم يكن ليصيبه . وقيل : الصبر الجميل: هو الذي يبتغي به العبد وجه الله الجليل، لا حرجاً من أن يقول الناس: جزع ، ولا أملاً في أن يقول الناس صَبر، وإنما يبتغي بصبره وجه الله جل وعلا، يصبر واثقاً في الله ، مطمئناً بقضاء الله وقدره ، مستعلياً على الألم، مترفعاً على الشكوى .  

إخوة الإيمان : وعن أنواع الصبر ومراتبه وغيرها ، ستكون خطبتنا القادمة إن شاء الله تعالى هذا وصلوا وسلموا على من أمرنا من ربنا بالصلاة والسلام عليه، بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 .. اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد ، وارض اللهم عن آله ، وعن سائر الصحابة الأكرمين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين  . اللهم احفظ بلدنا ليبيا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ومن الأشرار والمفسدين والمخربين ، وحقق لبلادنا الأمن والأمان ، والراحة والاطمئنان ، ولسائر بلاد المسلمين ، ربنا اجعل لنا من لدنك ولياً ، واجعل لنا من لدنك نصيرا ، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين  . اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا حاجة إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات،  وأدخل اللهم في عفوك وغفرانك ورحمتك آباءنا وأمهاتنا وجميع أرحامنا ومن له حق علينا. اللهم إنا نسألك المغفرة والثواب لمن بنوا هذا المسجد ، ولكل من عمل فيه صالحا وإحسانا، واغفر اللهم لكل من بنى لك مسجدا يذكر فيه اسمك ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون