جديد المدونة

الالتجاء إلى الله



الالتجاء إلى الله
الحمد لله الذي لا يكشف الضرّ إلاّ هو ، والحمد لله الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلاّ إليه ، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ، ونتوب إليه من كلّ الذّنوب والخطايا ، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ هو وأشهد أن لاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، هو الواحد الأحد الفرد الصّمد الذي ليس له صاحبة ولا ولد ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون وأصلّي وأسلّم على المبعوث رحمة للعالمين ، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدّين ، أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل .
مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُحْمَدْ فِي عَوَاقِبِهِ
                   وَيَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا وَمَنْ هَانُوا
مَنِ اسْتَجَارَ بِغَيْرِ اللَّهِ فِي فَزَعٍ
                         فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وَخِذْلانُ
فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمًا
                        فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ
إخوة الإيمان: إنّ من أعظم البلايا التي تصيب النّاس ، نسيانِهم لخالقهم ، وهي من أدلِّ صفات الفسق والنّفاق ، قال تعالى : { نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } التوبة 67 . لذلك يُحذّرنا الله نفسه ويحذّرنا أن ننساه فيقول سبحانه : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }الحشر19 . وكما انّ نسيان الله يكون بالمعاصي وترك الواجبات وترك الذّكر، فإنّ نسيان النّفس كنتيجة لذلك هو الضّلال والطّغيان ، واتّباع الهوى وعدم التّوفيق ، وهذا في الدّنيا ، أمّا الأشدّ ألما والأبقى عذابا نسيان الآخرة ، عندما يجد الضّال نفسه أعمى ، فيتوجّه إلى خالقه قائلا :{ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } طه 125 ، 126 . أمّا الذّاكرين الله فإنّ الله يعدُهم بأن يَذْكُرَهُمْ فيقول { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }البقرة152 . بل إنّ ذكر الله لنا اكبر من ذكرنا إيّاه { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }العنكبوت45 . وهذا الذّكر لا بدّ ان يكون دائما ، وفي كلّ الأوقات والأحيان ، في الشدّة والرّخاء ، في الفقر وفي الغنى في المرض وفي الشّفاء ، في الحلّ وفي التّرحال ، بل إنّنا إذا ذكرنا الله في الرّخاء ، نجده في الشدّة ، وما اكثر ما يتعرّض إليه المؤمن من البلاء ، وليس ذلك إلاّ دليلُ حبٍّ وعطاء ، والأنبياء هم الأشدّ ابتلاء . فالحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان ، وأعزّنا بالإسلام ، وجعل أمر المؤمن كلُّه لهُ خير ، وليس ذلك إلاّ للمؤمن ، فإذا عظُم الخطب ، واشتد الكرب ، إذا ضاقت في وجهك الدنيا فقل .. يا الله ، إذا سُدَّتْ في وجهك الأبواب ، وَقُطِعَتْ أمامك الأسباب، فتوجَّه إلى رب الأسباب والمسببات وقل يا الله ، إذا زادت عليك الأحزان وتشابكت حولك الهموم فقل يا الله ، يا الله ، يا الله . فلن يضيع ندائك ، ولن يخيب رجاؤك ، فأنت تلجأ إلى الرب الرحيم ، اللطيف الخبير، الذي رحمته وسعت كل شيء ،، وهذه نماذج ، ممّا تعرّض له الأنبياء من الابتلاءات رغم مكانتهم العليّة ، لأنّها اداة للتّمحيص والاختبار ، ولأنّها دروسٌ عمليّة ، لكلّ المؤمنين الصّادقين ، بضرورة الرّجوع إلى الله واللّجوء إليه ، عند الكروب والشدائد ، وهذا أشدُّ ما يقرّبُ العبدَ لخالقه ، قال الله تعالى في حقّ نوحٍ عليه السّلام :{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ }الصافات75. وقال في حقّ موسى وهارون{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ }الصافات 114 ، 115 . وقال في حقّ كلّ مضطرّ لجأ إلى خالقه ، إذا تضاعف به الضر ، وزاد السُّوء ، وعلم أن لاّ كاشف له إلا الله ، { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ، قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }النمل62 . وقال سبحانه أيضا : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ، وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } الأنعام17،18 . وهذا أنموذج آخر ، ممّا لحق نبيّ الله يونس وهو في ظلمات ثلاث ، ليكون قاعدةً لكلّ مؤمنٍ ، ألمّت به المصائب من كلّ حدب وصوب . قال الله تعالى : {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ، أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ، وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ }الأنبياء 87 ، 88 . وانتبهوا جيّدا أيها الإخوة لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } أليست هذه إشارة واضحة ، لتحقيق النّجاة لكلّ من يلجأ إلى الله تعالى ؟ أليس هذا هو الدّعاء ، الذي علّمنا إيّاه نبيّ الهدى والرّحمة ، إذا ضاقت علينا  الدّنيا، بما رحبت بسبب معاصينا :{ لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }
إخوة الإيمان : هناك مقصد أساسيّ من وراء كلّ هذا ، إنّها حكمة الحكيم ، وتدبير الذي لا تخفى عليه خافية ، إنّه الرّجوع إلى الله بالكلّية ، ألم تسمعوا أو تقرؤوا قوله تعالى. { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } الذاريات50 . إنّها الصّلة بالله سبحانه وتعالى ، والتّعلق به ، واليقين  بوعوده ، والأمل في نصره ، والرّضاء بقضائه ، والرّغبة في ثوابه ، والخوف من عقابه ، والتّوكل على قوته .. ذلك هو المعوّل عليه في كل خطب ، وهو الموثوق به بإذن الله عز وجل في كل كرب ، فتضرع إلى الله أيها المسلم ، واستمسك بمنهج الله ، واطلب من ربّك من خيري الدّنيا والآخرة ، وناجيه وادعوه تضرّعا وخفية بأيّ لغة وبأيّ لهجة في أيّ وقت وحين ، أليس هو القائل : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة186. إلاّ أنّه رغم هذه الأدلّة ، وهذه الآيات القائمة ، على تجارب الأنبياء والصّالحين ـ ولعلّ فيكم من عاش مثل هذه التّجارب الإيمانيّة ، ورأى رأي العين ، وعلم علم اليقين ، كيف أن الله تعالى يسمع ويرى ، ويجيب دعوة المضطرّ إذا دعاه  ويكشف السّوء .. رغم كلّ ذلك ـ فإنّ النّاس عن ذلك غافلون ، وإلى غير الله ملتجؤون ، وعلى  غير الله معتمدون ، وينسون أنّ كلّ اعتماد وتوكل على غير الله ؛ فإنه إلى هزيمة وضياع ، وإن المرء المؤمن ، لَيرى ويقرأ ، ويوقن ويعتقد ، وهو يتلو آيات القرآن ، أن ذلك حقٌ لا مرية فيه ، ولكن أحوال الدنيا المضطربة ، وأحوال القلوب الخائفة الجزعة ، وضلال العقول الخربة ، ربما ينال من ذاك كله ، والله - جل وعلا - قد بيّن لنا وفصّل ،  أن كل التجاء إلى غيره ، وكلّ اعتماد على سواه ، تكون نتيجته وخيمة ، ولا تحمد عقباه ، فمن اعتمد على جاهه ذلّ ، ومن اعتمد على ماله زلّ ، ومن اعتمد على عقله ضلّ ، ولكن من اعتمد على الله ، لا ذلّ ولا زلّ ولا ضلّ ، ولكن أفلح في الدّارين ، فلنعتمد ولنتوكل على الله فهو حسبنا وهو وكيلنا ، وهو كافينا وهو حامينا ، وحامي كلّ المؤمنين الصّادقين المخلصين ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم  {  وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }الطلاق3،. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بذكره تطمئن القلوب ، وبتقواه سبحانه وتعالى تزال الهموم وتكشف الخطوب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله طبيب القلوب ورسول علام الغيوب ، والذى باتباع هديه تنشرح الصدور وتسكن النفوس والقلوب ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا  . أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ثم لنعلم أن الالتجاء ، إنَّما يكون للملتجئ الحقيقي النافع ، وهو الله  سبحانه وتعالى ، فهو  جل وعلا  العظيم الحليم ، وهو رب العرش العظيم ، وهو رب السماوات والأرض ، هو الذي بيده كل شيء ، وهو الذي تنفذ مشيئته في كلِّ شيء ، وهو الذي تنتصر قدرته على كلِّ شيء - سبحانه وتعالى - ، ولذلك ينبغي لنا أن نحقّق  هذا الأمر في واقع حياتنا ، وهو صدق التجائنا إلى ربنا ، ولا يكون ذلك كاملاً ، ولا يكون عظيماً ، ولا يكون دائماً ، إلا بصدق اليقين بالله  سبحانه وتعالى  ، والإيمان به جل وعلا  ، والإيمان بقضائه وقدره ، ثم الرضا والتسليم لما يجري به قضاءه وقدره  جل وعلا . ينبغي أن نكون على يقين ، أن الأمر كله بيد الله ، وينبغي أن نكون على يقين ، أن النصر من عند الله ، وينبغي أن نُعَظِّمَ يقيننا بأن القوة كلها لله ، وأن العزة كلها لله .. ينبغي ألا يخالط نفوسنا شيء من ريب أو شك ، أو ضعف أو خذلان ، أو ذلٍّ لغير الله - سبحانه وتعالى - ، { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ  ، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }الممتحنة 4 ، 5 . « اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلاَ تَكِلْنَا إِلَى نْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ». عباد الله : فلنغتنم هذا المكان وهذا الزّمان ونحن بين يدي الله تعالى وليستحضر كلّ منّا حاجته لخالقه العليّ القدير السّميع البصير مفتتحين دعاءنا بالصّلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 ، اللهمّ صلّ وسلم وزد وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللّهمّ يا أرحم الرّاحمين  يا ربّ العالمين  يا ناصر المستضعفين يا مفرّج كربة المكروبين نسألك يا الله أن ترحمنا رحمة واسعة تشفي بها سقيمنا وتهدي بها ضالّنا وتقضي بها حوائجنا وترجع بها غائبنا وترحم بها موتانا .  اللّهمّ إنّا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسأل يا الله بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحد من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ان تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا وقائدنا وسائقنا إلى جنّاتك جنّات النّعيم . اللّهمّ إليك نشكو ضعف قوّتنا وقلّة حيلتنا وهواننا على النّاس ، أنت ربّ المستضعفين وربّنا إلى من تكلنا إلى بعيد يتجهّمنا أم إلى عدوّ ملّكته أمرنا إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي ولكن عافيتك هي أقرب لنا . اللهمّ فعافنا واعف عنّا ، عافنا يا ربّنا في أسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا  ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا . اللّهمّ إنّا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا ونحن نعلم علم يقين أنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت فاغفر لنا ، اغفر لنا لنا ما قدّمنا وما أخّرنا وما أسررنا وما أعلنّا وما أنت أعلم به منّا اغفر لنا الذّنوب التي تنزل البلاء والذّنوب التي تحبس الدّعاء ، اللهم اجعلنا رحماء في بيننا ، وارحمنا بترك المعاصي أبدا ما أحييتنا ، ووفّقنا  إلى ما تحبّه وترضاه يارب العالمين ، اللهم وارحم والدينا واهد أبناءنا إلى صالح الأعمال ، ربّ اغفر وارحم إنّك غفور رحيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين .  

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون