رمضان شهر القرآن
رمضان شهر القرآن
الحمد
لله الذي جعل شهر رمضان سيد الشهور، أفاض فيه الخير والنور، يعيش المسلمون في ظله بسعةٍ
وحبور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فرض علينا الصوم تهذيبًا للنفوس
وتحقيقًا لتقوى القلوب بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
{البقرة:183}.
وأشهد أن سيَّدنا ونبيَّنا وشفيعنا محمدًا عبده ورسوله ، كان أجود بالخير من الريح
المرسلة ، حين يلقاه جبريل كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن ، صلى الله وسلم وبارك
عليه ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . أما
بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، فلنتق الله ولنقوي الصِّلة بربنا في هذا
الشهر المبارك ، الذي تعظم فيه الصلة بالله عز وجل ، وبكتابه الكريم تلاوةً واستماعاً،
وتدبُّراً وانتفاعاً ، هذه العلاقة التي يشعر بها كلُّ مسلمٍ في قرارة نفسه ، مع أوَّل
يومٍ من أيام هذا الشهر الكريم، فيُقْبِل على كتاب ربه يقرأه بشغفٍ بالغ ، فيتدبر آياته
، ويتأمل قصصه وأخباره وأحكامه ، وتمتلئ المساجد بالمصلين والتالين ، وتدوي في المآذن
آياتِ الكتاب المبين، معلنةً للكون أن هذا الشهر هو شهر القرآن، قال جل وعلا: {شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }البقرة185
، قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله : ( وكان ذلك - أي إنزالُ القرآن- في شهر رمضان في
ليلة القدر منه ، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }
القدر1 ، وقوله سبحانه : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } الدخان3
. وقد كان نبينا ورسولنا صلى الله عليه وسلم ، يكثر من قراءة القرآن في هذا الشهر،
بل كانَ أحرص ما يكون على ذلك ، ففي الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى
الله عنهما قَالَ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ ،
وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ
يَلْقَاهُ فِى كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ } . وكان يعارضه القرآنُ في كل عام مرة ، وفي العام
الذي تُوفِيَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عارضه جبريل القرآن مرتين. ليدل
على أن هذا العمل له أهميته في هذا الشهر..
وكان للسلف رحمهم الله ، اهتماما خاص بالقرآن في
هذا الشهر الكريم ، فكانوا يخصصون جزءاً كبيراً من أوقاتهم لقراءته ، وربَّما تركوا
مدارسة العلم من أجل أن يتفرغوا له ، فكان عثمان رضي الله عنه، يختم القرآن كل يوم
مرة ، وكان بعضهم يختم القرآن في قيام رمضان في كلِّ ثلاث ليال ، وبعضهم في كلِّ سبْع
، وبعضهم في كل عشر، وكانوا يقرؤون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للإمام الشافعيِّ
رحمه الله في رمضان ، ستون ختمةً يقرؤها في غير الصلاة ، وكان الأسود رحمه الله يقرأ
القرآن في كل ليلتين في رمضان ، وكان قتادة رحمه الله يختم في كل سبعٍ دائماً ، وفي
رمضان في كل ثلاث ، وفي العشر الأواخر في كل ليلة ، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا
دخل رمضان ، يَتْركُ قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ، ويُقْبِل على قراءة القرآن من
المصحف .
ومما
ينبغي أن يُعْلَمَ إخوة الإيمان : أن ختم القرآن ليس مقصوداً لذاته ، وأن الله عز وجل
إنما أنزل هذا القرآن للتدبر والعمل ، لا لمجرد تلاوته والقلب غافلٍ لاه ، قال سبحانه:
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ }ص29
وقال جل وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
}محمد24 . وقد وصف الله
في كتابه أمماً سابقة بأنهم { أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ
}البقرة78 وهذه (الأمِّيَّةَ)
هي أميةُ عقلٍ وفهم، وأمِّيَّةُ تدبُّرٍ وعمل، لا أمِّيَّة قراءة وكتابة، و(الأَمَانِيَّ)
هي التلاوة -كما قال المفسرون- بمعنى أنهم يرددون كتابهم من غير فقهٍ ولا عمل .
وقد أكَّدَ نبينا صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ، حين حدث أصحابه يوماً فقال: « هَذَا
أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ ، حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى
شَىْءٍ ». فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِىُّ ، كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا
وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ ، فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا
وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ « ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ
مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ ». رواه
الترمذي. إذن ، فختم القرآن ليس مقصوداً لذاته ،
وليس القصدُ من تلِاوتهِ هَذَّهُ كَهَذِّ الشِّعر، دون تدبُّرٍ ولا خشوع ، ولا ترقيقٍ
للقلبِ ووقوفٍ عند المعاني ، لِيُصْبِحَ همُّ الواحد منَّا الوصول إلى آخر السورة ،
أو آخر الجزء ، أو آخر المصحف، ومن الخطأ أيضاً أن يَحْمِلَ أَحَدَنَا الحماس ،عندما
يسمع الآثار عن السلف ، التي تبين اجتهادهم في تلاوة القرآن وختمه ، فيقرأ القرآن من
غير تَمَعُّنٍ ولا تدبُّر، ولا مُراعاةٍ لأحكام التَّجويد ، أو مخارج الحروف الصحيحة
،، حرصاً منه على زيادة عدد الختمات ، وكون العبد يقرأ بعضاً من القرآن ، جزءاً أو
حزباً أو سورةً بتدبرٍ وَتَفَكُّرٍ ، خيرٌ له من أن يختم القرآن كلَّه ، من دون أن
يعي منه شيئاً، وقد جاءَ رجلٌ لابن مسعودٍ رضي الله عنه فقال له: إني أقرأ المفصل في
ركعة واحدة ، فقال ابن مسعود: "أهذّاً كهذِّ الشِّعر؟! إن أقواماً يقرؤون القرآن
لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ" ، وكان يقول:
"إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأصغ لها سمعك، فإنه خيرٌ تُؤْمَر به،
أو شرٌ تُصْرَف عنه" . فاحرص أخي الصائم: على تلاوة القرآن في هذا الشهر بتدبُّرٍ
وحضورِ قلب، واجعل لك وِرْداً يوميًّا لا تفرط فيه ، ولو رتبت لنفسك قراءة جزءٍ أو أكثر ، قبل أو بعد كل صلاة ، لحصَّلت خيراً عظيماً
، نسأل الله تعالى أن ينفعنا ويرفعنا
بالقرآن العظيم ، وأن يجعله حجةً لنا لا علينا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، أقول
قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم ..
الخطبة الثانية
الحمدُ
لله الْمَرْجُوِّ عَفْوِه وثوابه، وَالْمُخَوِّفُ مكرُه وعقابُه، أحمده تعالى وأشكره
، غَمَرَ قلوبَ أوليائه بِرَوْحِ رَجَائِه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك
له ، منّ على عباده بجزيلِ نَعْمَائِهِ وفَيضِ آلائِه ، وأشهدُ أنّ سيدنا ونبيّنا محمّدًا
عبده ورسوله سيّد أنبيائه ، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه وأصفيائه
، وسلّم تسليمًا كثيرًا. أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} البقرة:281.
أيها
المسلم الكريم: هكذا كان حال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، مع القرآن في رمضان،
وهكذا سار أصحابه رضي الله عنهم ، وكذا التابعين
رحمهم الله ، وهم من هم في الفضل، فما حالنا، وأين نحن منهم، وكم هو وردنا منه
في سائر الأيام، وفي رمضان بشكلٍ آكد ، وهل طبقنا أحكام القرآن وآدابه كما أرادها
الله عز وجل ، في أقوالنا وأفعالنا ، وعلى أنفسنا وفي ما بيننا وفي مجتمعنا وفي بلادنا
، فلنـتق الله عباد الله في القرآن وقراءته وتدبره ، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته
، وفي رمضان في صيامه وقيامه ، نسأل الله أن يعيننا على ذلك ، هذا وصلوا وسلموا
على أشرف البرية وأزكى البشرية فقد أمرنا الله بالصلاة والسلام عليه في تبيانه
فقال عز من قائل {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56
اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم ،، اللهم اجعلنا لكتابك
من التالين ، ولك به من العاملين ، وبالأعمال مخلصين ، وبالقسط قائمين ، وعن النار
مزحزحين ، وفي الجنان منعمين ، وإلى وجهك ناظرين ، وعلى الصراط عابرين ، وعلى حوض نبيك
صلى الله عليه وسلم واردين ، ومنه شاربين ، يا أرحم الراحمين ، اللَّهُمَّ أَلِّفْ
بَيْنَ قُلُوبِنَا ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلاَمِ ، وَنَجِّنَا
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ ، وَبَارِكْ لَنَا فِى أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا ، وَأَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وَاجْعَلْنَا
شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا ، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا
». اللهم إنا نسألك أن تنشر الأمن والأمان والسعادة والاستقرار في بلادنا ليبيا
وعموم بلدان المسلمين ، اللهم أصلح وأعن من وليتهم أمور بلادنا أعنهم على إصلاح
البلاد وإسعاد العباد ، وقرب إليهم بطانة الخير والصلاح يا أرحم الراحمين ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات
، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، عباد الله : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90
. اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على عموم فضله ونعمه يزدكم ولذكر الله
أكبر والله يعلم ما تصنعون ..
ليست هناك تعليقات