جديد المدونة

الماء سر الحياة


الماء سر الحياة
الحمد لله الذي أنزل من السَّماء ماءً بقدر، نقيّاً من الشَّوائب والكَدَر، فأحيا به البوادي والحضر، وأشهد أن لاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق من الماءِ البشر، وَعَلِمَ عَدَدَ ذرَّات الرَّمل وحَبَّاتِ المطر {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً }48-49النحل . وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ،، أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281
معاشر المسلمين : أتحدث إليكم اليوم ، عن نعمةٍ عظيمة ، نعمةٍ من أجل نعم الله ، بل هي سِرٌ من أسرار الحياة .. في أحد الأيام ، دخل ابن السَّمَّاك على الخليفة هارون الرشيد، فاستسقى الخليفة فَأُتِيَ بكوب من الماء، فلما أخذه قال له: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو مُنِعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك اللهُ تعالى. فلما شربها قال: أسألك: لو مُنِعْتَ خروجَها من بدنك، بماذا كنت تشتري خروجها؟ قال: بجميع ملكي. قال يا أمير المؤمنين: إن مُلْكاً قِيمَتُهُ شَرْبَةُ ماءٍ وإخْرَاجِهَا، لجديرٌ أن لا ينافس فيه، فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا . نعم يا عباد الله .. إنها نعمة الماء، سر الحياة، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30 . فلولا الماء ، ما كان إنسان ، وما عاش حيوان ، وما نبت زرع أو شجر .. الماء هو غذاء الكائنات وحياتُها؛ وبفقده تَذْبُلُ وتموت، ترى الأرض هامدة يابسة ، مُغْبَرَةً منكمشة ، فإذا نزل عليها الماء تحركت فيها الحياة ، وتلألأت بالخضرة والنضارة {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }الحج5 . ولأهمية  الماء ، قدَّر الله تعالى له نظاماً وَسُنَناً في الحياة ؛ فقدر لَهُ جل وعلا سُنَناً تجعله سحباً طائرة، وسنناً تجعله قطراتِ مطرٍ متساقطة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ، فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ، يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }النور43. فإذا نزل المطر جعل الله له سُنَناً تحفظه في مستودعات في جوف الأرض { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ }المؤمنون18، ثم جعل له سُنَناً تدفعهُ في سيقان الشجر وأغصانها ، وَسُنَناً أخرى تجعل من الماء أنهاراً جارية، وعيوناً متفجرةً، وبحاراً تغمر الآفاق وتمتلئ بالأسماك والكائنات مما لا يعلمه إلا الله ، الذي يعلم ما في البر والبحر. ووصف الله الماء بأنه مبارك أي كثير الخير، فقال الله تعالى : {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً ، فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ }ق9.. هذا الماء الذي نراه كانت له سيرة حافلة في التاريخ، فكم كان نعمة ورحمة لقوم ، وكم كان عذابا ونقمة لآخرين . أما كون الماء نعمة ورحمة: فالماء العذب أفضل شراب، وأعظم صدقة، وماء المطر رحمةُ الله لعباده، وكان الماء رحمة للمؤمنين يوم بدر حينما ثبت الله بالمطر أقدام النبي عليه الصلاة والسلام،   وأولياءه المؤمنين . وأما كون الماء عذاباً ونقمة: فالماء جند من جنود الله ، جعله الله طوفاناً وعذاباً على قوم نوح ، فعمَّ الأرض وعلا قمم الجبال، ولم ينج منه إلا نوح عليه السلام وأصحابُ السفينة .. وجعل الله الماء عَذَاباً لسبأ، التي كان أهلها في نعمة عظيمة، فأعرضوا عن أمر الله، فأرسل عليهم سيل العرم، فانهار السَّدُّ واجتاح الماءُ بلادَهم ، وَاجْتَثَّ زُرُوعَهُم وَثِمَارَهُم . وأما في التاريخ الحديث، فلا يزال العالم يشهد أنواعاً من الفيضانات ، والمدود والزلازل ، ومن أشهرها زلزال تسونامي المائي، وأمواج المد البحري التي نتجت عن هذا الزلزال، والتي سارت من المحيط الهادي ، إلى المحيط الهندي ، بسرعةِ ألف كيلو متر في الساعة ، وبلغ ارتفاعها من عشرة أمتار إلى أربعين متراً .. أمواجٌ قادرة على إغراق ناقلات النفط ، من البواخر العملاقة ، ولو سارت هذه الأمواج على اليابسة ، لحطمت القطارات وسكك الحديد ، واقتلعت الجسور ، وأطاحت بالمنشآت ، ودمَّرت المدن بأكملها . ومن العقوبات المتعلقة بالماء، ما يبتلي الله به عباده من نقص الأمطار وجفاف المياه، بتأخر نزول الماء أو نقصانه في الزروع والثمار والبهائم، أو نقص منسوب المياه الجوفية، فنشكو إلى الله أحوالنا، ونستغفره من ذنوبنا ..
عباد الله: هل استشعرنا حقاً قدر الماء؟ نفتح الصنبور أو الحنفية، فينهال علينا الماء عذباً فراتاً بكل سهولة، فهل استشعرنا نعمة وجوده؟ هل استشعرنا نعمة حلاوته وعذوبته، وأنه ليس بملحٍ أجاج؟ أم أننا بسبب إلف وجود الماء وتوفره ، نسينا قدر هذه النعمة ؟ فبالنا اليوم نفتح صنابير المياه ولا نغلقها ، نفتحها في مطابخنا وفي حماماتنا ، وفي مناسباتنا ، وفي مساجدنا ، ونتركها لساعاتٍ طويلة أثناء عَمَلِنَا بها دون إغلاق ، مياه تسيل في الشوارع وتسد الطرقات ، ومياه كالشلالات تتدفق طوال الليل من الخزنات ، من أعلى أسطح البيوت والعمارات ، حتى أنبتت العشب ، ومياه تسيل من الحدائق العامة حتى تملأ الطرقات ، ولو نظرنا في بعض البلاد المنكوبة في أفريقيا وغيرها، لرأينا إخواناً لنا وأطفالاً يموتون يومياً بسبب الجفاف ، وعدم وجود الماء العكر!! فضلاً عن الماء العذب الزُّلال .
عبدالله :  إذا أردت أن تعرف قدر الماء ، فتخيل معي فقدا لهذه النعمة ولو لزمن يسير، فمن أين لك بالماء؟ وصدق الله تعالى إذ يقول : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ }الملك30.. وقوله سبحانه { أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} 68-69-70الواقعة . فتذكر يا عبد الله ، أن نعمة الماء إحدى النعم التي سَنُسْأَلُ عنها يوم القيامة {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }التكاثر8 وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِى الْعَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ ». جعلنا الله وإياكم من المعترفين بنعمته، العاملين بها في طاعته، ونسأله تعالى المزيد من فضله، إنه جواد كريم .أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله العالمين ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، القدوة الحسنة للخلق أجمعين ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه والتبعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .. أما بعد فاتقوا الله عباد الله ، وحافظوا على نعمة الماء، الاقتصاد وعدم الإسراف ، فشكر الله تبارك وتعالى على هذه النعمة ، لا يقتصر على اللسان فقط ، بل يتعداه إلى الشكر بحسن التصرف فيه ، وحسن استغلاله ، والاقتصاد والترشيد في استعماله، فأي إسراف في استعمال الماء هو تصرف سيء، وسلوك غير حميد، جاء النهي عنه صريحا في القرآن المجيد، في قوله تعالى: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }الأعراف31. وروى ابن ماجة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ « مَا هَذَا السَّرَفُ ». فَقَالَ أَفِى الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ قَالَ « نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ ».  فلنعمل إخوة الإيمان بهذه الوصايا ، التي تحثنا على عدم الإسراف في الماء ، ونتناصح بها فيما بيننا ، وفي بيوتنا وفي شوارعنا ، حتى تبقى هذه النعمة ويديمها الله علينا ،، هذا ونصلى ونسلم يا عباد الله على من أُمِرْنَا بالصلاة والسلام عليه بقوله تعالى  {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد صلاةً نزداد بها منه قربا ، وننال من يده الشريفة شربةً لا نظمأ بعدها أبدا ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ،، اللهم اجعلنا ممن شكرك على نعمائك فزدته ، واقتصد ولم يسرف فأعنته ، اللهم أدم علينا نعمة الماء ، واجعلنا ممن يحافظون عليها ولا يفسدونها ، واحفظها علينا من التلوث والفساد والإسراف يا رحيم يا رحمان ، اللهم مُنَّ علينا بالصحة والعافية ، واحفظنا وبلادنا من شر الفتن والمحن ، الظاهرة والباطنة ، واصرف يا مولانا عن بلادنا أصحاب الفتن والمشاكل والقلاقل ، واجعل كيدهم يعود عليهم ، واحفظ البلاد والعباد من سوء فعالهم يا قوي يا قاهر ، فإنك عليم بما في القلوب والضمائر ، اللهم يا أرحم الراحمين  من وليتهم زمام الأمور في بلادنا ، اللهم أكرمهم بتوفيقك وعونك ومددك ، في إصلاح البلاد ، وإرشاد العباد إلى كل خير ، والبعد عن كل شر يارب العالمين ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم عباد الله : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90 . اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون