جديد المدونة

حب الوطن ليس كلاما


حب الوطن ليس كلاما
الحمد لله ربِّ العالمين ، كتب العزَّة له ولرسوله وللمؤمنين ، أحمده تعالى حمد الشَّاكرين ، وأشكره شكر أهل الإيمان واليقين ، وأشهد أن لاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملكُ الحقُّ المبين ، هو المستعان على أمور الدُّنيا والدِّين ، والمستغاث لرد كيد الكائدين ، والمرتجى لدفع مكر الطغاة والظالمين ، وأشهد أن سيَّدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله .. قدْ كانَ هذا الكونُ قبلَ وُصولِهِ
                           شُؤْمًـا لظالِمِـهِ وللمظـلومِ
لمَّا أَطَـلَّ محمدٌ زَكَـتِ الرُّبا
               واخضرَّ في البُسْتانِ كلُّ هشيمِ
صلّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيتِه الطيبين الطاهرين، وعلى صحابتِه أجمعين، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين . أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى أيّها المسلمون وخافُوه، وأطيعُوا أمرَه ولا تعصُوه { وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}البقرة: 223.
عبادَ الله: شعورٌ كم خفَقَت به القُلوبُ، وشوقٌ كم تعلقَت به الأفئدة، وحنينٌ يزلزل مكامنَ الوُجدان، حبٌّ أطلَق قرائحَ الشُعراء، وهوًى سُكِبت له محابرُ الأدباء، وحَنينٌ أَمَضَّ شِغَافَ القُلوب، وإلفٌ يأوي إليه كرامُ النُّفوس وسليمو الفِطَر، حبٌّ لم تَخْلُ منه مشاعرُ الأنبياء، ، وَوِدٌّ وُجِد في قُلُوبِ الصَّحابة والأصفياء ، بل هو شُعورٌ تَغَلْغَلَ في دواخلِ الحيتان تحتَ الماء، ورَفرفت لأجلِه أجنحةُ الطير في السَّماء ، إنه ـ أيها المسلمون : حبُّ الأوطان، قال أهل الأدَب: {إذا أردتَ أن تعرفَ الرجلَ ، فانظُر كيف تَحِنَّتُه إلى أوْطَانه ، وتَشَوُّقُه إلى إخوانه ، وبُكَاؤُه على ما مضى من زمانه}.
المحبّةُ للأوطان ، والانتماءُ لِلْأُمَّة والبلدان ، أمرٌ غريزيّ ، وطبيعةٌ طَبَعَ الله النُّفُوسَ عليها، وحينَ يُولَد إنسانٌ في أرضٍ وينشأُ فيها ، فيشربُ ماءَها ، ويتنفَّس هواءها ، ويحيا بين أهلها ، فإنَّ فِطْرَتُه تربطه بها فيُحبُّها ويواليها، ويكفي لِجَرْحِ مشاعرِ إنسانٍ أن تشير بأنَّه لا وطنَ له. وقد اقترنَ حُبُّ الأرض بحبِّ النَّفْسِ في القرآن الكريم، قال الله عزَّ وجلّ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنُ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوُ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ }النساء: 66 ، بل ارتبط في موضع آخر بالدِّين، قال تعالى: { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللَّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة: 8. ولما كان الخروجُ من الوطَنِ قاسيًا على النَّفس ، فقَدْ كان من فضائلِ المهاجرين أنهم ضَحَّوْا بأوطانهم، هِجرةً في سبيل الله ، في سُنَنِ التِّرْمذيّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِىِّ بْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِىِّ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ « وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ ، وَلَوْلاَ أَنِّى أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ». قال العينيّ رحمه الله: { ابتلى الله تعالى نَبِيَّهُ بفراق الوطن}. ولمَّا علم النبيّ أنّه سيبقَى مُهاجرًا دعا بتحبيبِ المدينة إليه ، كما في صحيحِ البخاريّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ ، أي: أسْرَعَ بِهَا، قال ابن حَجَرٍ رحمه الله: { فيه دلالة على فضلِ المدينة، وعلى مشروعيةِ حبِّ الوطن والحنين إليه}.
أيّها المسلمون  من مقتضيات الانتماء للوطن محبّتُه ، والافتخارُ به وصيانتُه ، والدفاعُ عنه والنصيحةُ له ، والحرصُ على سلامتِه ، واحترامُ أفراده وتقديرُ علمائه ، وطاعةُ ولاة أمرِه ، ومِن مقتضياتِ الوطنيّة القيامُ بالواجبات والمسؤوليّات، كلٌّ في موقعه مع الأمانة والصدق، ومن مقتضيات حبِّ الوطَن احترامُ نُظُمِهِ وثقافته ، والمحافظة على مرافِقه ومواردِ الاقتصادِ فيه ، والحِرص على مكتسَباته ، وعوامِل بنائه ورخائِه ، والحذرُ من كلّ ما يُؤَدِّي إلى نقصه.
إنّ الدفاع عن الوطن واجِبٌ شرعيّ، وإنَّ الموتَ في سبيلِ ذلك شهامةٌ وشهادَة، وفي قصّة الملأ من بني إسرائيل: { قَاَلوُا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} البقرة: 246.
عباد الله : إن المُوَاطَنَةَ الصَّادقة ، تَكْمُنُ في رعاية الحقوق ، واجتنابُ الظُّلْمِ واحترامُ حقِّ الغير ، والسَّعْيُ الجاد من كل مواطنٍ مسئولٍ أو غير مسئول ، لتأمين الآخرين على أموالهم وأنفسهم ، إِذْ لا خير في وطنيةٍ تقدس الأرض والتُّراب ، وتهين الإنسان ، فالوطن حقاً هو الإنسان الذي كرَّمه الله بالإنسانيَّة ، وشرَّفه بالمِلَّةِ المُحمَّدِيَّة .. إن حبنا لوطننا ، وحرصنا على علو كعبه ، وظهور شأنه وَسُمُوِّ أمره ، ينبغي أن يَحْمِلَنَا على التنازل عن مصالحنا الشخصية ، إذا تعارضت مع المصالح العامة . ينبغي أن يَحْمِلَنَا صدق الانتماء إلى أن نكون كالأسرة الواحدة ، يحبُ بعضنا بعضا ، ويذُبُّ بعضنا عن أعراض بعض ، وَيُحْسِنُ بعضنا الظن بالآخر ، وَيُحِبَّ كُلَّ واحد منا لأخيه ما يحب لنفسه.
عباد الله : إن الوطنية الصادقة تَحْمِلُنَا على الإسهام الفاعل والإيجابي ، في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعتُه ، قولا كان ذلك أو عملا أو فكراً ، وتَحْمِلُنَا على التصدي لكل أمر، يترتب عليه الإخلال بأمن وسلامةِ الوطن ، والعمل على ردِّ ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمُتاحة . إنَّ الوطنيَّةَ المحمودة ،هي التَّي تكون فيها جُسُورِ الْحُبِّ والنُّصح ممدودةً بين الرئيس والمرؤوس وسائر المواطنين ، فلا يتردد المواطن من خلالها من إبداء نُصْحٍ أو ملحوظة ، أو اقتراحٍ لأي جهة حكومية أو خاصة. إننا نأمل بكلِّ ثقةٍ واعتزاز، أن نرى بلادنا ليبيا ، مثالا يحتذى في كل خير .. فقد حبانا الله من المواقع أجملَها ، ومن التربة والأرض أخصبها ، ومن الأموال أكثرها.
إخوة الإسلام : إن علينا واجبٌ آخر: أن نبني أوطاننا ، وبناءُ الوطن عبادة ، بل هو من أشرف العبادات، إِنْ جَعَلْنَا الصناعةَ تنمو في بلدنا ، فنحن نعبد الله ، إن طَوَّرْنَا زراعتنا فنحن نعبد الله ، إن طَوَّرْنَا مدارسنا فنحن نعبد الله ، إن طَوَّرْنَا كل ما يمكن أن يسمى فرعاً أو جزءاً من الوطن ، فنحن نعبد الله ، لأن وَاجِبَنَا نحو الوطن بناء ، نريد أن نبنيَّ أوطاننا، نريد أن نجعل من أوطاننا ، أوطاناً رفيعة عالية متينة، مبنيَّةً قائمة على أرجلها وسوقها، قويَّةً عزيزةً أبيَّة ، نريد أن يتنبه أبناء الأوطان هنا ، وفي كل مكان إلى هذا . فكل مواطن يستطيع التعبير عن حبه لوطنه ، بإتْقان عمله ، والاخلاص في وظيفته، ومقاومة الكذب والغش ، والخداع والتَّضليل ، وكلُّ طُرُقِ التَّعَامُلِ المرفوضة عقلاً وشرعاً. ينبغي ان نتنافس جميعاً ، في تقديم الخدمة للوطن، وليس في الكسب فقط ، لأن الحب عطاءً وليس أَخْذاً، حبُّ الوطن تضحيةٌ وايثار، وليس انانية واثرة ، حبُّ الوطن عملٌ وانتاجٌ واتقان ، وليس قولاً مسجوعاً، وَادِّعَاءً فارغاً، وتسلقاً على اظهر العاملين ، وقطفاً لعرق العمال والفلاحين ، ونهباً لخيرات البلد والكادحين، حب الوطن عقيدةٌ وانتماء ، حب الوطن عبادةٌ وامانة، حب الوطن تعففٌ وَعُلُوِّ نَفسٍ وخلق عظيم. فلنلتق على الحب والخير في كل حين ، امتثالاً لقول نبينا عليه الصلاة والسلام « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».. وقوله « لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ».. نسأل الله تعالى أن يجعلنا مؤمنين متراحمين ، متعاطفين متحابين ، إنَّه نعم النَّاصر ونعم والمُعين ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله المحمودِ بكلِّ حالٍ، منه الْمُبْتَدَأُ وإليه المنتهَى وإليه المرجِعُ والمآل، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الكبيرُ المتعال ، وأشهد أنّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى الصّحب والآل. أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله القائل { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }المائدة2.
عباد الله : إن علينا من منطلق الإيمان، ثم من منطلق حب هذا البلد المُبارك، أن نَجْهد في النُّصح له ، وفي القيام بواجباتنا تجاهه، ولنصبر ولنتحمَّل قليلاً حتى تمر هذه المرحلة الصعبة التي تمرُّ بها بلادنا ، وليعلم كل واحد منا أنه حارسٌ للمجتمع ، ومرابطٌ على ثغر من ثغور الأمة، فلا يؤتينَّ الإسلام من قِبَلِهِ، وإنها لأمانة ورعية استرعانا الله إياها ، فعلينا ونحن تطل علينا الذكرى الثانية لثورة بلادنا المجيدة حفظها الله ، ثورة السابع عشر من فبراير ، أن يكون حبنا لوطننا سرورا تخالطه الأخلاق الكريمة، والمحبة الصادقة فيما بيننا ، والحرية المنضبطة المصحوبة بالنية الصافية الصالحة ، وبالتسامح والتصالح والبعد عن الأخلاق الذميمة ، وعن إيذاء الناس بالأفعال أو الأقوال السيئة . فالوطنُ يُبْنَى بالجميع ، فالكلُّ عليه أن يشارك في البناء ، لأننا نعيش ونحيا فيه ونأكل ونتمتع بخيراته ، فحبُّ الوطن أخي المسلم ليس كلاما فقط وإنما هو أقوالا وأعمالا صالحة . نسأل الله تعالى أن يعيننا على بناء أنفسنا وإصلاحها بالمحبة الصادقة الصافية ، وبناء وطننا بالحب الصادق المخلص، وبنشر الصلاح والخير فيه ، هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النَّبي المختار ، كما أمرنا بذلك العزيز الغفار، فقال عز قائلا عليما {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } اللهم صلى وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وعلى آل الطيبين الأطهار وصحابته الأخيار وعنا معهم يا عزيز يا غفار، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين . اللهم أصلح أحوال المسلمين. اللهم اجمع كلمتهم على الحق وردهم إلى دينك ردا جميلا. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء. اللهم ارحمنا رحمة تهد بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا وتلم بها شعثنا وترد بها الفتن عنا وعن بلادنا يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين ، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا أرحم الراحمين. اللهم لا تفرق جمعنا هذا في هذا اليوم المبارك وهذه الساعة المباركة من يوم الجمعة إلا بذنب مغفور وسعي مشكور وعمل متقبل مبرور وتجارة لن تبور يا عزيز يا غفور ،  ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع قريب مجيب الدعوات. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.  

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون