الذوق الإسلامي {3}
الذوق الإسلامي {3}
الحمد لله الذي أمر بالاستئذان ، فقال سبحانه وتعالى في محكم البيان { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنار بصائر أولي النهى بأنوار التوحيد والهدى والإيمان ، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، أرشد الأمة إلى طريق السعادة ، ودخول روضات الجنان، فقال صلى الله عليه وسلم « أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ ». صلى الله وسلم وبارك عليه ،وعلى آله وصحبه ما تعاقبت الليالي والدهور والأزمان . والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين بإحسان . وسلم تسليما كثيرا . أما بعد فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها الذخيرة التي تنفع صاحبها، والتجارة التي تُرْبِحُ طالبها، وهي حُلَّةُ الْعِزِّ والكرامة، وَلِبَاسُ السعادة والنصر والسيادة . { فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } المائدة100 .
معاشر المسلمين : لازلنا نتواصل وإياكم ، عبر هذه السلسة المباركة ، لبعضٍ من الذوقيات الإسلامية ، التي يجب أن تكون فيما بيننا ، وأن نحافظ عليها في مجتمعاتنا . فمن الذوقيات ، التي تساهل فيه كثيرٌ من الناس ولا يراعونها ، هي أدب الاستئذان ، ترى أحدهم يخرج من بيته ، قاصدا بيت صديقه أو قريبه ، بلا موعدٍ مسبقٍ ودون أي ترتيب ، يقول لك إنه صديقي ، إنه أخي أزوره في كل وقت . وإننا هنا نتكلم عن الذوق في المعاملة ، نتكلم عن الأدب الذي علمنا إياه الإسلام ، والذي يجب أن يكون عند كل مسلم ، والآن إليك أيها المسلم ، كلام الله عز وجل ، يقول سبحانه وتعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } النور 27. ومعنى { تَسْتَأْنِسُوا } ، أي تتأكدوا أنهم مستعدون لاستقبالكم ، وتستأنسوا في القرنِ الواحدِ والعشرين معناها : أن تتصل به هاتفياً وتأخذ منه موعداً .. كلمةٌ جميلةٌ كلها ذوق { تَسْتَأْنِسُوا } أي تضمن أنه سيأنس بك هذا الصديق أو هذا الأخ أو القريب ويسعد بزيارتك .. وأحيانا تذهب من دون موعد تجده يعتذر لك ، أنه لن يستطيع أن يستقبلك ، فتغضب غضبا شديدا وتقيم الدنيا ولا تقعدها ، وتنشر خبره وتفضحه في كل مجلس ، وتتهمه بالبخل وعدم اللياقة وعدمه الذوق .. إن من الذوق أيها المسلم ، ألا تغضب. يقول الله تعالى : {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} النور 28. هذا ليس كلام بشر ، إنما هو كلام الله عز وجل ، يبين لنا أحكام البيوت المسكونة ، فإياك أن تغضب ، إن اعتذر أخوك عن أن يستقبلك .. فإن صاحب المنزل لم يمنعك حقًّا واجبا لك ، وإنما هو متبرع ، فإن شاء أذن وإن شاء مَنَعْ ، فلا يأخذكم الكبر ولاشمئزاز من هذه الحال ، لأن ذلك { أَزْكَى لَكُمْ }. فلا تلحوا في الدخول ، لأن الرجوع عندئذ أطهر لكم ، ولأن الإنسان له أحوال وظروف ، يكره أن يطَّلِع عليها أحد .
ومن الذوق كذلك طريقة قرع الباب : وإن من السلوكيات غير الطيبة ، والبعيدة كل البعد عن الذوق .. أن تجد مثلا من يدق جرس الباب ، ثم يقف في وجه الباب ، ويضع يديه الاثنتين عليه ، وقد يغلق العين السحرية!! انظروا إلى أدب الإسلام ، يقول صلى الله عليه وسلم : " لا تقفوا أمام الباب ولكن شرّقوا أو غرّبوا “. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ وَيَقُولُ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ».
ومن الذوقيات التي يقصر فيها كثير من الناس ، السلام ، فقد شرع الله السلام بقوله سبحانه وتعالى { فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وبقوله تعالى {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }النساء86 . والسلام هو التحية التي شرعها الله لعباده المؤمنين ، من عهد آدم إلى يوم القيامة ، روى البخاري ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم قَالَ « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عليه السلام ، قَالَ له اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُجِيبُونَكَ ،فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ قَالَ فَذَهَبَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ - قَالَ - فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ - ». وللسلام فضل عظيم ، ولذا فقد أمر به الني صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه البخاري ومسلم ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص - رضى الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ « تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ » . فالمسلم إذا أراد محبة الناس ورضا ربه وجنانه ، عليه أن يحرص على آداء السلام ويبادر به، فمنهم الذي يمر على الناس أو يدخل عليهم ، ولا يسلم ، إما كبرا أو احتقارا أو إنقاصا لشأنهم ، ومنهم الذي يصافح وهو متكئ أو منطرح على الأرض فيمد يده وهو كاره ، أو يسلم برؤوس أصابعه، فإن أتى مسئول أو صاحب جاه اعتدل في جلسته وربما انتصب واقفا وسلم بيديه الاثنتين تقديرا لهذا القادم صاحب السلطة أو الجاه والمال ، فمن الذوق أن تتواضع للناس وتحترمهم وتقدرهم لا لمناصبهم وأموالهم ، إنما طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً ، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِى عِلِّيِّينَ ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً ، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ ». وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه أَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ». فاحذر أخي المسلم أن تكون فيك هذه الصفة ، فلا يدخلك الله الجنة ..
كما أن من السنة إخوة الإيمان : السلام حتى على الصبيان ، لنعلمهم تحية الإسلام ، لما روى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. كما أن كثرة السلام ، تزيد المحبة والألفة بين الناس فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ». جعلني الله وإياكم من المفلحين الفائزين ، ومن المتصافين المتحابين ، وبلغنا جميعا منازل الأبرار المتقين ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ،،
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد ..
إخوة الإيمان : كما أن من الذوق الحركة الرفيقة : فهناك من الناس صنف لا يراعي الآداب العامة ، فتجده بعدما يدخل مكاناً .. سواء كان بيتا أو مكانا عاما ، أو سيارة .. يغلق الباب بشدة ، فتارة يكسر الزجاج ، وتارة يفزع الناس .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلاَ زَانَهُ وَمَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلاَ شَانَهُ » . بالله عليك أيها المسلم ، اجعل هذا الحديث منهجاً لك فهو طريقك إلى الذوق الرفيع.
الذوق الآخر ، التطفل في الدعوة . أحيانا يدعوك أحد أصدقائك لطعام في يوم كذا ، وفي هذا اليوم تذهب لصديقك ولكن ليس بمفردك !! فتأخذ معك شخصا آخر .. فيصاب صاحب البيت بصدمة لهذا التطفل ،استمعوا معي إلى هذا الحديث.. دعي النبي صلى الله عليه وسلم هو وخمسة من الصحابة ، عند رجل من الأنصار ، وفي أثناء ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم والخمسة ، إِذْ بِصَحَابِيٍّ آخر يتبعهم ، ويمشي معهم حتى وصلوا إلى البيت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب البيت : " إنّ هذا تبعنا فإن شئت فأذن له ، وإن شئت فَلْيَرْجِعْ . قال الأنصاري الذي دعاهم : بل آذن له يا رسول الله. “ إنه موقف محرج وبخاصة لصاحب البيت وأهله ، فالطعام قد يكون لعدد معين ،وقد تكون الأماكن كذلك لعدد معين ، وإذا زاد هذا العدد فما العمل ! ؟ ولكن انظر إلى أدب النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يضع صاحب البيت في مأزق وحرج ، فبادره وشرح له الموقف وخيّره . فأين هذه الذوقيات بيننا الآن! ؟.
إخوة الإسلام : هذا هو شرعنا وهذا هو ديننا ، فالمسلم الحق ، هو من يجعل هذه الآداب وهذه الذوقيات ، نصب عينيه ، ومنهجا يسير عليه في حياته ، وفي مجتمعه ، وإلا فهو ليس بمسلم .. أعاننا الله وإياكم على الطاعات، وختم أعمارنا بالباقيات الصالحات ، وجمعنا في أعالي الجنات ، إنه جواد كريم ، اللهم نوّر قلوبنا بنور الإيمان، اللهم عاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار، اللهم ارزقنا حلاوة التذلل بين يديك، وألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، برحمتك يا أرحم الراحمين ..
* * * * * * * * * *
* * * * *
* * *
*
ليست هناك تعليقات