جديد المدونة

في استقبال شهر رمضان المبارك

 

استقبال شهر رمضان

الحمد لله الَّذي جعل لعباده مواسم الخيرات، يتسابقون فيها بأنواع الطَّاعات، ويتوبون من السَّيِّئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّداً عبده ورسوله أول سابقٍ إلى الخيرات ، صلى الله وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه الَّذِين كُلُّ أوقاتهم طاعات ، وسلَّم تسليماً كثيرا : أمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى الله ، فاتَّقوا الله رحمكم الله  فتقوى الله خير زادٍ في الدُّنيا ودار المعاد﴿  وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ  ([1]).

إخوة الإيمان : ها هو شهر الصِّيام والقيام يستعدُّ للنزول بساحتنا ، ويحلَّ ضيفا علينا ، لِيَستحثُّ الهِمم، ويستنهض الأرواح، وينبه النفوس  لتقوم من غفلتها، وتصحو من نومتها، وتعود إلى بارئها  ، جاءنا رمضان ، لتتطهر فيه القلوب، وتتزكى فيه النفوس، وتحيا فيه الأرواح، وتُغْفَر فيه الذنوب، وَتُرْفَعُ فيه الدرجات، وتُمْحَى فيه السيئات، وتُعْتَقُ فيه الرقاب ، جاءنا رمضان لتقوية الإرادة، وصدق العزيمة، والانتصار على النّفس، والتّسامي بها فوق الشّهوات، والتّرفُّعِ بها عن الأحقاد والضّغائن والكراهية والعناد ،  نَسْأَلُ الله تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَنَا إِيَّاهُ ونحن في صحةٍ وعافية ، وأن يَكْتُبَ لنا صيامَهُ وَقِيَامَهُ تامًّا كاملاً ، وَأن يجعلنا فيه من المقبولين الفائزين ؛ فبَرَكاتُ هَذَ الشَهْرِ لاَ يَعْلَمُ عدَدَهَا إلاَّ اللهُ ، ولاَ يَقْدِرُ أَحدٌ مِنَ البشَرِ على حَصْرِهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»([2]).

رمضانُ شهرُ الخير والبركاتِ

                         شهرُ الفضائلِ لَذَّةُ الطَّاعــــاتِ

فيه الْمَثَابَـةُ للخلائقِ نِـعـمةٌ

                           ومَحَطةُ الإنسانِ للـخـيـــــرات

فيه النَّعيمُ بليلةٍ فيها الهنا

                      هي أفضلُ اللَّيلاتِ في السَّنَوات

تتنزَّلُ الرَّحماتُ فيها منَّةً

                     سُبْحَانَ مَنْ قد منَّ بالرَّحمات  

فيَنْبَغِي يَا عِبَادَ الله : أَنْ نَسْتَقْبِلَهُ بِالْفَرَحِ بِإِدْرَاكِهِ، لِأَنُّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّنَا أَنْ نُدْرِكَ هَذَا الشَّهْرَ،  فَكَمْ مِن قُلُوبٍ تَمَنَّتْ! وكمْ منْ نُفُوسٍ حَنَّتْ أنْ تَبْلُغَ سَاعَاتِهِ ولحظَاتِهِ! وَلكِنْ دَاهمَهُمُ الْموتُ وَغَيَّبَهُمْ عَنَّا  ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾([3]). وَإنَّ مِنْ رحمَةِ اللهِ بنَا أنْ أَخَّرَنَا لِبُلُوغِ هذِه الأيامِ ، وأمْهَلَنَا فلَمْ يتَخَطَّفْنَا الموتُ كمَا تَخَطَّفَ أُناسًا غَيرَنَا، فلوْ تَأَمَّلنَا قليلاً في حالِ بعضِ أقارِبِنَا أوْ جِيرَانِنِا أوْ مَعَارِفِنِا مِمَّنْ هُمُ الآنَ تحتَ الثَّرَى مُرْتَهَنُونَ بأعْمَالِهِمْ ، لَعَرَفَ الوَاحِدُ مِنَّا قَدْرَ هذهِ النِّعْمَةِ .

فيا عباد الله : إنْ كَتَبَ الله لنا بلوغ رمضان وصيامه: فلنصم صوم المودِّعين ونستقبل شهر الصيام تائبين منيبين عازمين على الإكثار من فعل الصالحات ، وعمل الخيرات.

في هذا الشهر الفضيل يا عبد الله : تَفَقَّدْ من حولك ، تَفَقَّدْ أقرباءَك وأرحامك ، تَفَقَّدْ جيرانك ، فتش عن المحتاجين ، ادفع زكاة مالك بقدر ما استطعت ، فالله يُبَارِكُ لك ، بادر بنفسك ، لا تتهاون ولا تؤجل ، وكن من الْمُنْفِقِينَ ، يقول الله تبارك تعالى  ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾([4]). فاجعل مِنْ رمضان يا عبد الله : مَوْسِمَ بذلٍ وَجُود ، فهو شهر الجود والإحسان ، ومضاعفةِ الحسنات . عن ابْنَ عَبَّاسٍ  رضى الله عنهما  قَالَ : كَانَ النَّبِىُّ  صلى الله عليه وسلم  أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ  يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم  الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ([5]).

وإذا كنت يا عبد الله : غافلاً عن ذكر الله تعالى ، فاجعل رمضان أيام ذكرٍ ودعاءٍ وتلاوةٍ لكتاب الله تعالى ، فهو شهر القرآن ، واحرص كذلك على نظافة صومك ، كحرصك على نظافة ثوبك . فاجتنب اللغو  والفحش ، ورذائل الأخلاق ، فلا تكنْ أَخِي منْ أولئك الذين وصفهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:« رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ »([6]). فذاك هو الذي يصومُ عن الطَّعام والشَّراب ، ولا يصوم عن الحرام والباطل ! فحالُه كما رأيت لا ينتفع من صيامه ولا من قيامه ! ورحم الله القائل :

إن لـم يكـنْ في السَّمْـعِ مِنِّي تـَصَاوُنٌ

                وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وفِي مَنْطِقِي صَمْتُ

فَحَظِي إِذاً مِنْ صَوْمِيَ الْجُوعُ وَالظَّمَأْ

              فـَإِنْ قُلْـتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمِيَ فَـمَا صُمْتُ

 فيا أخي المسلم : اجعل من صومكَ مدرسةً تهذب فيها نفسك ، وَتُعَلِّمَهَا مكارمَ وَمحاسن الأخلاق ، وَتُرَبِّيهَا على الفضيلة ، حتى إذا انقضى رمضان أَحْسَسْتَ بالنَّتِيجة الطَّيِّبَة لصومك ، وكنت من المنتفعين بهذا الشهر المبارك .. نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن يحسنون استقبال هذا الشهر ، بالطَّاعات والقربات وفعل الخيرات ، إنَّه سميعٌ قريبٌ مجيب الدَّعوات . أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ...

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هديه أمَّا بعد: فيا أيها الإخوةُ الأكَارِمُ : شهرُ رمضانَ الكريم على الأبْوَابِ، إنَّه مَوْعِدُكُمْ معَ اللهِ عزَّ وجلَّ ، إنَّه دوْرةٌ تدرِيبِيَّةٌ، إنَّه فُرْصةً سنويِّةٌ، إنَّه مَدرسةٌ قَد تَدخُلُهَا فِي حَالٍ وتخْرُجُ مِنهَا في حَالٍ آخَرَ.

عبادَ اللهِ: كَمْ مِن مُسْرِفٍ على نفسِهِ في الأعوامِ السَّابِقةِ، قَد وَعَدَ ربَّهُ إنْ أدْرَكَ رمضانَ القَابِلَ ، أن يجْتَهِدَ اجتهَادًا لا مَزِيدَ عليهِ، ولكِنَّهُ ينْسَى مَوْعِدتَهُ تِلكَ، ولا يَتَذَكَّرُهَا إلاَّ في آخرِ الشَّهرِ، حينَ يرَى النَّاسَ سَبَقُوهُ بالأعمالِ الصَّالحةِ ، وهُو لَمْ يُبَارِحْ مكَانَهُ، فلْيَتَذَكَّرْ مِنَ الآنِ وُعُودَهُ فِي الأعوامِ السَّابقةِ، ولا يَجْعَلْ رمضانَ هذِهِ السَّنةَ ، كمَا مضَى مِن رَمَضَانَاتٍ أضَاعَهَا في اللَّهوِ والْعَبَثِ، والنَّومِ والغَفْلَةِ وتَضْييعِ الفُرَصِ.

إنَّ أعمَارَنا أيُّها الكِرامُ : تَمضِي بنَا سِرَاعًا إلى قُبُورِنَا ونحنُ لا نَشْعُرُ، ومَوَاسِمُ الخيرِ تَمُرُّ بنا كُلَّ عامٍ ونحنُ كَمَا نَحْنُ، لَمْ نَزْدَدْ إيمَانًا ولا عَملاً صَالحًا، وهَذَا مِن إطْبَاقِ الغَفْلَةِ، وتَسوِيفِ النَّفْسِ، وتَزْيينِ الشَّيطَانِ؛ فلْنَحْذَرْ ذَلكَ يا عبادَ اللهِ: ولْنَنْتَبِهْ مِن غَفْلَتِنَا، ولْنَسْتَيْقِظْ مِن رَقْدَتِنَا، ولْنَسْتَعِدَّ لرمضَانَ بما يَلِيقُ بِهِ، وَلنُرِىَ اللهَ تعَالى مَن أنفُسِنَا خَيرًا؛ فعَسَى أنْ نَحظَى بنَفْحَةٍ مِن نفَحَاتِهِ المبارَكَةِ نسْعَدُ بهَا فَلا نَشْقَى أبدًا. وَأَخِيراً ، لِنَتَذَكَّرْ دَائِماً وأبَدَاً مَا وَرَدَ في كِتَابِ رَبِّنَا الكَريمِ: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([7]). نسأل الله تعالى أن يبلِّغنا شهر رمضان ، ونحن في صحةٍ وعافية ، وأن يكتبَ لنا صيامه وقيامه إنه ولي ذلك والقدر عليه . عباد الله صلُّوا على رسول الله ، صلُّوا وسلِّموا على من  أمِرْنَا من ربنا بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه وتعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([8]). اللهمَّ صَلِّ وسلِّم وبارك عَلَى سيدنا ونَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وارض اللهم عن آلهِ وصحْبِهِ أَجْمَعِينَ ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . اللهم بارك لنا في شهر شعبان ، وبلِّغنا شهر رمضان سالمين ، واجعلنا فيه من المقبولين الفائزين  ، اللهم اجعل شهر الصيام شهر خيرٍ ورضوان ، يعمُّ خيرُه وبرُّهُ علينا وعلى بلادنا جميعا ، وعموم بلدان المسلمين ، اللهمَّ يَا رَبَّ السمواتِ السبعِ وربِّ العرشِ العظيمِ ، يا مَن تسمعُ كلامَنا ، وتَرى مكانَنَا ، وتعْلمُ سِرَّنا وجهرَنا، اللهمَّ بلْغِنْا رمضانَ ، اللهم بلغنا رمضانَ ، اللهمَّ أعِنَّا على صِيَامِهِ وقيامِهِ ، اللهمَّ اجْعَلْنا من عُتَقَائِكَ مِنَ النَّارِ، اللهمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنَ يصُومُ رمضانَ إيماناً واحتساباً ، اللهمَّ أَهِلَّ عليْنَا شهرَ رمضانَ بالأَمْنِ والإيمانِ، والسَّلامَةِ والإِسْلامِ، والتوفيقِ لِمَا تُحِبُّهُ وترضَاهُ يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللَّهُمَّ احْفَظْ بلدنا ليبيا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَمْنن عَلَيْهَا بالأَمْنَ وَالأَمَانَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، اللهم وسع لنا في أَرْزَاقِنَا، وبارك لنا في أموالنا واجعلها حلالاً مباركةً يا رب العالمين ، اللهم مغفرتك ورضوانك لآبائنا وأمهاتنا ولأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْـمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ ، اللهم مغفرتك وضوانك لمن بنوا هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ولمن عمل فيه صالحاً وإحسانا يا رب العالمين. عباد الله : 



 



([1]) البقرة197 .

([2]) رواه مسلم .

([3]) الجمعة8 .

([4])الحديد18 .

([5]) رواه البخاري .

([6]) رواه البيهقي .

([7])غافر: 39- 40 .

([8]) الأحزاب 56 .

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون