جديد المدونة

آباء غرباء عن بيوتهم

 

آباء غرباء عن بيوتهم

الحَمْدُ للهِ الذِي أَمَرَ بِكُلِّ مَا يُصْلِحُ أَحْوَالَ الأَفْرَادِ والأُسَرِ، وَحَثَّ عَلَى العِنَايَةِ بِالنَّاشِئَةِ مُنْذُ الصِّغَرِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ  وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرشَدَ الأُمَّةَ إِلَى مَا فِيهِ عِزُّ أَبْنَائِها وصَلاَحُ مُجتَمَعاتِها، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه،  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهتَدَى بِهَدْيِهِ، وَاستَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى القائل سبحانه  ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾([1]).

حضراتِ المسلمين : إنَّ من أعظم الأمانات وأكبر المسئوليات، والتي منها تتخرج الأجيال، وتُصنع العقول، ويربى الأبناء، فيه تُصنع القدوات، ومنه تسير الأخلاق، وعنه تنبع القدرات: إنها أمانة البيت، وَمَنِ الْمَسْئُول عنها إلا أنتم -أيها الآباء-، وقضيتنا المطروحة اليوم سؤال مهم ، آباء غافلون عن البيوت لماذا؟!

غفلة غياب، أو غفلة متابعة، فآباء حاضرون حاضرون، وآخرون حاضرون غائبون، وآخرون غائبون غائبون.

إذا ما رأسُ أهلِ البيتِ وَلَّى

                           بدا لهم من النَّاسِ الجفاء

إنَّ دور الأبوة ليس الاهتمام بالغذاء والدواء، أو العناية بالألبسة والسفريات، أو وسائل الترفيه والنزهات. تلك شيء من الحقوق، وذلك نوع من الوفاء، ولكنَّ الْأَهَمَّ والْأَجَلَّ والأعظم هو التربية، تربيةٌ على الدين والأخلاق، والتعامل والتواضع، واحترام الآخرين، وصحبة الصالحين، وتجنب طريق المفسدين، والعفة عما في أيدي العالمين، والألفة مع سائر المسلمين ، قَالَ النَّبِىُّ  صلى الله عليه وسلم « كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ . »([2]). ويقول تعالى ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾([3]).

إذا كان هذا الواجب فقولوا بربكم كيف يقومُ بهذا من جُلُّ أوقاته غائبٌ عن بيته ، بعيدٌ عن أسرتهِ وأولاده في اللهو ، أو في الأعمال والأسواق أو مع الأصحاب ، يتهرب من البيت بلا مبالاة، فإما هارب وإما نائم. "آباء" عن بيوتهم "غرباء" كيف يقومون بالرسالة، أو يحملون مسئولية، أو يصنعون جيلا؟

إذا كان ربُّ البيت بالطبلِ ضارباً

                     فشيمةُ أهلِ البيتِ كُلِّهِمُ الرَّقْصُ

نساءٌ تشتكي عزوف وغربة الأزواج، وأطفال يفتقدون الحنان، وشباب ينشدون التربية والتوجيه، وفهم الخطاب. وفي الحديث الشريف« إنَّ لِرَبِّك عَلَيْك حَقًّا ، وَلِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا ، وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»([4]).

إنَّ أولادنا اليوم بأمس الحاجة إلى فهم المرحلة، فمن الآباء من يرغب أن يعيش أبناؤه كما يعيش هو الآن.

بقاء في المنزل ونوم مبكر

                          ولبس منضبط وأكل معَين

وغير ذلك من رغبات كبار السن. لا شك أن حصول هذا أمرٌ محمود، وطيبٌ ومرغوب، ولكن الأب الكريم لو راجع أيامَ شبابه لوجد أن له هفوات ورغبات، كانت تتعارض مع أراء والده لاختلاف المرحلة، مرحلة العمر، فمتطلبات والد في الأربعين تختلف عن مطالب شابٍ في العشرين، ووالدٍ في الستين تفترق رغباته عن شاب في الثلاثين، فلنع ذلك جيداً.

أيها الآباء: فِقْهُ مَرْحَلَةِ العمر ومتطلباتها يجب أن نعيه جيدا لتجاوز الخلافات والشقاق والنزاعات، بين الآباء والبنين والبنات، مع الضبط بضوابط الأخلاق والشرع، ووسطية التعامل، دون إسراف أو تقتير: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾([5]). فقبض العصا من الوسط، أفضل أسلوب، وأكمل مرغوب.

إنَّ الأب يأذن في المباحات ؛ ولمصلحةٍ كبرى يُفَوِّتُ المكروهات، لكنه يكون سدًّا منيعا عن المحرمات، وتسرب الممنوعات، وضابطاً لشبكات الإنترنت، حادًّا من التَّوسُّع في دخولها، والإفراط فيها، منعاً للأفكار السَّيِّئَةِ ؛ فالأب قدوة لأولاده.

مشى الطاووس يوما باعوجاج

                               فَقَلَّدَ شكل مِشْيَتِهِ بنوه

فقال علام تختالون؟ قالوا

                              بدأت به ونحن مقلدوه

فخالف سيرك المعوج وأعدل

                             فإنا إن عدلت معدلوه

أما تدري أبانا كلُ فرع

                        يجاري بالخطى من أدَّبوه

وينشأ ناشئ الفتيان منا

                          على ما كان عوده أبوه

أيها الآباء الكرام: إنَّ من الآباء ودعوني أكون صريحاً من لا يعرف أين أولاده، ولا مع من يسيرون، ولا مع من يركبون، أو مع من يسهرون، أو متى إلى البيت يأوون، أو من يصحبون، بلْ ولا يعلم في أي سنة يدرسون. إنَّ من هذا حاله قد ضيع أولاده، وخان أمانته، وفرط في أهله، وتركهم مع الشيطان في طريقه إلى الجحيم.

ومن الآباء من لا ينفق على أولاده، فهو عليهم من الْمُقَتِّرين، ولطلباتهم وحاجياتهم من الرافضين، يتركهم عالة على زوجة، أو أجداد، أو قرابة، أو صحبة، يعطي هذا، ويمنع ذاك، ومن أعطى مرة منع مرات، ومن بذل مرة حرم مرات: والله يقول ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾([6]).

أيها الآباء: لا أقول: انفق على ابنك فحسب، بل أقول: أغنه عن أصحاب السوء، وعن الناس، حتى لا يحرفوه عن الصراط المستقيم . من ترك أولاده فلمن يتركهم؟! من لم ينفق على أولاده فمن سينفق عليهم؟! من لا يربي أولاده من يريد أن يربيهم؟! ومن لا يحرص على أولاده من سيحرص عليهم؟! ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾([7]).. أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على حسن تربية أبنائنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَ هَدْيَهُ. أما بعد فيا أيها الآباء: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله ؛ اتقوا الله في أولادكم، في أبنائكم وبناتكم، ربوهم صغاراً، واحرصوا عليهم شباباً، وصاحبوهم كباراً. اغرسوا فيهم الصدق والأمانة والوفاء، ومكارم الأخلاق والتواضع، ولين الجانب، وصلة الأرحام، واحترام الصغار، وتوقير الكبار، وكفِّ الأذى، وطلبِ الفضائل، والبعد عن الرذائل . ازرعوا القيم والأخلاق بالقدوة الحسنة، ازرعوا الثقة والرجولة، وتحمل المسئولية. ولكن بأسلوب مقبول، هين لين ، يتلائم مع الأعمار، مع الرحمة والشفقة، وإظهار المودة والثناء. الثناء الثناء، فهو من أهم الوسائل لاحتواء قلوب الشباب، مع التوسط والموازنة، مزح مرة، وهدية أخرى، وثناء ثالثه، فالولد الصالح  سبب في رفع درجات الآباء في الجنة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ يَارَبِّ أَنَّى لِى هَذِهِ فَيَقُولُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ »([8]).. نسأل الله تعالى  أن يبارك لنا في أولادنا وأن يوفقهم لطاعته ويرزقنا برهم ، إنه سميع قريب مجيب الدعاء . عباد الله : صلُّوا على رسول الله ، صلُّوا وسلِّموا على من أمرنا من ربنا بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([9]). اللهم صل وسلم وزد وبارك وأكرم وأنعم على سيدنا ونبينا محمد ، وارض اللهم عن آله وأصحابه أجمعين ، اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا، وَبِالسَّعَادَةِ آجَالَنَا ، اللَّهُمَّ اشْغَلْ قُلُوبَنَا بِحُبِّكَ، وَأَلْسِنَتَنَا بِذِكْرِكَ، وَأَبْدَانِنَا بِطَاعَتِكَ ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْمَغْفِرَةَ وَأَسْبَابَهَا، وَالْعَافِيَةَ وَدَوَامَهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ، وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ. اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْوَبَاءَ، وَعَافِنَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَامْنُنْ عَلَى الْمَرْضَى بِالشِّفَاءِ، يَا مَنْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. اللَّهُمَّ احْفَظْ بلدنا ليبيا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَمْنن عَلَيْهَا بالأَمْنَ وَالأَمَانَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، اللهم مغفرتك ورضوانك لآبائنا وأمهاتنا ولأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا يا رب العالمين ، وللمسلمين أجمعين ، ولمن بنوا هذا المسجد ، ولمن أنفق وينفق عليه ولمن عمل فيه صالحاً وإحسانا يا رب العالمين. عباد الله ..  



([1]) آل عمران102  .

([2]) رواه البخاري .

([3]) الأحزاب: 72  .

([4])[أخرجه الترمذي وغيره].

([5])الإسراء: 29 .

([6])الطلاق: 7 .

([7])التحريم6 .

([8]) رواه أحمد

([9]) الأحزاب 56 .





ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون