اترك أثراً طيبا بعد الرحيل
اترك أثراً قبل الرحيل
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ،
وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ
اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ
وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ ، وَالتَّابِعِين
لَهُمْ بإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّين : أَمَّا بَعْدُ: فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى
الله القائل سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ
اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾([1]).
معاشر المسلمين : يقول الله تبارك وتعالى ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ
مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾([2]). في هذه الآيةِ الكريمة يبعث اللهُ الناسَ
بعد موتهم يوم القيامة ، لِيُجازيهم على أعمالهم ، إنْ كان خيراً فخيراً ، وإنْ كان
شراً فشراً ، وَقَدْ كُتِبَ ما قَدَّموا منْ أعمال ، وآثارٍ لهذه الأعمالِ ، وكلُّ
هذا في كتابٍ بيِّنٍ واضحٍ ، يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ
فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً
، اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾([3]).
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ
وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ
وَإِنْ أَسَاؤُوا فَبِئْسَ
مَا صَنَعُوا
عباد الله : إنَّ الأعمار محدودةٌ، والآجالُ مقسومة،
وَكُلُّ واحدٍ قد كُتِب له حظُّه في هذه الحياة، وأنت أيها الإنسان ، منذُ أَنْ خرجتَ
إلى الدُّنيا ، وأنت تَهْدِمُ فِي عُمُرِك، وتُنْقِصُ مِنْ أَجَلِك، وَتَبْنِي في قبرك.
فهَبْ أَنَّكَ مِتَّ الآن؟ فما آثَارُكَ بعد الموت؟ ما الأعمال المباركة التي تُنْسَبُ
إليك بعد موتك، وتنالُ عليها أجرًا ؟ كَمْ مُسْلِمًا علَّمتَ؟ كم تائهًا إلى طريق الحق
هديت؟ كم كلمةً طَيِّبَةً غرست؟ كم معروفا صنعت ؟ كم مرةٍ بين متخاصمين أصلحت ؟ كم
حديثًا عن رسول صلى الله عليه وسلم بلَّغْت ؟ وَرَسُولَنَا صلى الله عليه وسلم
يَقُول « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً . »([4]). ويقول صلى الله عليه وسلم« إِذَا مَاتَ
الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ ، مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ،
وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ »([5]). فَهَذِهِ وَغَيْرُهَا مِنَ اَلأَعْمَالِ الطَّيِّبَةِ ، لَيْسَتْ إِلَّا
مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ الْحَسَنِ ، وَالْأَثَرِ الطَّيِّبِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا
أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ ؛ سَبَبُهَا وَهُوَ الْمُتَوَفَّى أَوَّلًا، وَالْقَائِمُ بِذَلِكَ
الْأَثَرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ، ثُمَّ الْمُجْتَمَعُ مِنْ حَوْلِهِ وَمَنْ سَمِعَ أَوْ
رَأَى.
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى
عَبْدِهِ ، أَنْ يُوَفِّقَهُ فَيَجْعَلَ لَهُ أَثَرًا طَيِّبًا فِي حَيَاتِهِ؛ فَيَصِيرَ
ذَلِكَ أَثَرًا حَسَنًا بَعْدَ مَمَاتِهِ، يُمِدُّ بِهِ عُمْرَهُ ، وَيَزِيدَ بِهِ
فِي حَسَنَاتِهِ؛ وَهَؤُلاَءِ وَإِنْ مَاتَتْ أَجْسَادُهُمْ ، فَحَسَنَاتُهُمْ لَمْ
تَمُتْ، وَإِنْ وَارَى التُّرَابُ أَجْسَامَهُمْ، فَأَفْعَالُهُمُ الطَّيِّبَةُ وَآثَارُهُمُ
الْحَسَنَةُ ، لَا زَالَتْ تَرْسُمُ صُوَرًا ذِهْنِيَّةً لَدَى الْمُجْتَمَعِ ، يَذْكُرُونَهُ
فِيهَا بِخَيْرٍ وَيَحْتَذُونَ بِهَا.
كَمَا أَنَّ الْأَثَرَ الطَّيِّبَ ، هُوَ
اسْتِمْرَارٌ لِلْعَطَاءِ ، وَبَقَاءٌ لِلْخَيْرِ، وَمُسَاهَمَةٌ فَاعِلَةٌ فِي رِسَالَةِ
الْبَلَاغِ الَّتِي عُنِيَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ ، وَعَهِدَهُ إِلَيْهَا نَبِيُّهَا
الْكَرِيمُ صلواتُ رَبِي وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ حين قال: « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ
مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ
»([6])، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الطَّيِّبَةَ
، تَدْفَعُ بِالْمُجْتَمَعِ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ،
وَالتَّمَسُّكِ بِجَمِيلِ الْقِيَمِ وَمَكَارِمِ الصِّفَاتِ.
إخوة الإيمان : ما أحلى أن يجد الإنسان في صحيفته ، حسنات
لم يتعب فيها ، وأن يملأ ميزانه بطاعاتٍ عَمِلَهَا غيره ، وأن يرتقي درجات بعد أن يواريه
التراب . عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَّ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه
وسلم- قَالَ « إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَنَّى
هَذَا فَيُقَالُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ »([7]).
قد مات قومٌ وما ماتَتْ مكارمُهم
وعاش قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ
عباد الله : ولا يكون الأثر الحميد والذكر الجميل بالعلم
أو المال فقط، وإنَّما يكون كَذَلِكَ بالرحمة والإحسان إلى الخلق . يقول أحدهم : لقيت بمنى شابًّا ، يحمل شيخًا كبيرًا
على ظهره، فأردت أن أشكرهُ على بِرِّه ، فقلت له : جُزيت خيرًا لبرك بأبيك ، فقال
: لكنه ليس أبي ولا من بلدي . قلت : فمن إذن ؟ قال : وجدته بعرفة ليس معه أحد، فحملته
على ظهري إلى مزدلفة ومنها إلى منى . قلت : لم فعلت ذلك ؟ قال : سبحان الله ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾([8]). فما أحوجنا جميعاً إلى هذه الرحمة ،
وهذه الأخلاق التي يبقى أثرها في القلوب قبل السطور، وربُّنَا سبحانه وتعالى يقول ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ
﴾([9]). فأين أنت أيها المسلم من هذه الرحمة
وهذا الإحسان لمن حولك ، وممن هم بجوارك، وأين أنت من أقاربك وَأَهْلِكَ وأرحامك ؟
هل سألت عنهم ؟ هل تفقدت أحوالهم وحوائجهم ؟ وسعيْتَ في تَلَمُّسِ متطلباتهم
وقضائها لهم ؟ فيا أخي المسلم : اترك أثرًا حميدًا قبل رحيلك ، فجميلٌ أنْ تتركَ أثراً
طيباً لنفسك ولغيرك ، سواء كان هذا الأثرُ في العبادات أو المعاملات أو الدعوة والتوجيه
، فربَّ كلمةٍ واحدةٍ تكون سبباً في هداية أمة قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم « . لأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ
لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ »([10]).
ثُمَّ
تَذَكَّرْ أيها المسلم المبارك: أنك تعيش في هذه الدنيا مرة واحدة، وقد ترحل
عنها في أي وقت فاغتنم عمرك أيها الإنسان ، فالله
تعالى يقول ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾([11]). ويقول سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾([12]). فلنتق الله عباد الله ولنحرص على الأثر
الطيب الذي نتركه بعد موتنا لننعم بعظيم الأجر من ربنا ، جعلنا الله جميعاً مفاتيح
خيرٍ مغاليقَ شرٍّ ، أقولُ قَوْلِي هَذا، واسْتغفرِ اللهُ لِي وَلَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ
فَإنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رب العالمين ، وأشْهَدُ أنْ
لا إلهَ الله وحدَه لا شريكَ لهُ ، وأشْهَدُ أنَّ سيدنا ونبينا مُحَمّدًا عَبْدُه ورسولُه
، صَلّى اللهُ وسلم وبارك عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أجمعين . أما بعد
فيا عبد الله : هبْ أَنَّكَ الآن في عداد الموتى
، ما هي الكلمات التي تتوقع أن يصفك الناسُ بها بعد موتك ؟ هل سألت نفسك ما هو المشروع
الذي تريد أن يُثْبَتَ في صحيفة عملك بعد وفاتك؟ تأمَّل مشوار حياتك ، فقد يُرزق الإنسانُ
عُمَراً مَدِيدا ، ومالاً عَديداً، وَيَمُوتُ يوم يموتُ بِلا أثَرٍ يذكر، أو عملٍ عليه
يشكر، وهذا منَ الحرمانِ والـخُسران ، وقد يعيش بعضُهم عُمُراً قصيراً ، ويرحلُ بأثر
طيِّبٍ يـُخَلِّدُ ذكراه ؛
أخي المسلم : شمر عن ساعد الجد ، ولا تَذْهَبْ
من الدنيا ، قبل أن تكون لك بصمة في صلاح مجتمعك ، ومن الدُّعاة لدينك ، بالتخلق بأخلاقه
الكريمة الطَّيِّبة، وبالقدوة الحسنة في سلوكك وأفعالك ، فبهذه الأعمال الطيبة تضيف
إلى عمرك الحقيقي عمر ثاني . وقد أحسن من قال:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ
وَثَواني
فَارفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها
فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ
ثاني
نسأل الله تعالى أن يَجْعلنا مِمّنْ طابَ
ذِكْرُهُم ،وحَسُنَتْ سِيرَتُهُم ، وَخَلُصَ عَمَلُهُم ، وَاسْتَمَرَّ أجْرُهُمْ فِي
حَياتِهِمْ وَبَعْدَ مَوْتِهِم ، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب .
عباد الله : صلُّوا
على رسول الله ، صلُّوا وسلِّموا على من أمرنا من ربنا بالصلاة والسلام عليه بقوله
سبحانه ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([13]).
اللهم صل وسلم وزد وبارك وأنعم وأكرم على سيدنا ونبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، اللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا قدوة حسنة لأهلنا وأبنائنا،
اللهم اجعلنا صالحين مصلحين، هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين ، اللهم أصلح أحوالنا
وأحوال بلادنا وجميع بلاد المسلمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، اللهم مغفرتك ورحمتك ورضوانك لآبائنا
وأمهاتنا ولأصحاب الحقوق علينا ولمعلمينا ولمشايخنا ، ولمن أوصانا بصالح الدعاء ، ولمن
أسسوا هذا المسجد ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن يقومون على خدمته ، ولمن عمل فيه صالحا
وإحساناً يا رب العالمين
ليست هناك تعليقات