حرمة الدِّماء المعصومة
الموضوع
/ حرمة الدِّماء المعصومة
الحمد
لله، شرح صدور أوليائه للإيمان والهدى، وطبع على قلوب أقوامٍ فلا تعي الحق أبداً، من
يهدِ الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ؛ أحمده سبحانه وأشكره، جابر
الكسير، وميسر العسير، ومجيب النداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم
يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسوله، كَرُمَ رَسُولاً،
وَشَرُفَ عَبْداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاماً دائمين
سرمداً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم
بتقوى الله عزَّ وجل فاتّقوا الله رحمكم الله ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾([1]).
إخوة الإيمان:
يوم القيامة هو يوم الحساب والقضاء، والوزن والجزاء، يومٌ يقف فيه جبريل والملائكة
صفا بين يدي الرحمن لا ينطقون بكلمة، قال تعالى ﴿
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ
أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ﴾([2]).
في ذلك اليومِ ينكشفُ كُلَّ مستور، وَيُعْلَمُ كُلَّ مجهول، ويقفُ كُلُّ فرد وحيدا
أمام الملك الديان ليُسأل أولا عن أمرين: الصلاة والدماء، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ . »([3]).
فالصلاة هي أولى الفرائض العملية التي جاءت لتصديق عقيدة الإيمان .
وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ »([4]).
فالله سبحانه وتعالى يتولى يوم القيامة القضاء والحكم فيما يتعلق بمعاملات الخلق ،
ويكون أول القضايا في الدماء وسفكها بغير حق ؛ وفي الابتداء بالقضاء في قتل النفس بيانٌ
لِعِظَمِ هذه الفعلة الشنعاء المهلكة التي تورّط صاحبها، قال عليه الصلاة والسلام:
« لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا
»([5]).
فالإنسان يبقى في فسحةٍ وَسِعَةٍ يستحق رحمة الله وعفوه بأعماله الصالحة ما لم يقتل
نفسا، فإن قتل نفسا وَرَّطَ نفسه فأهلكها، قال ربنا سبحانه: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ
فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً .﴾([6]).
فالله
تعالى حرم القتل ظلما في جميع الشرائع ، وبنو إسرائيل لما فشا فيهم سفك الدماء حتى
قتلوا الأنبياء، خصَّهم في هذه الآية بالذكر، وَبَيَّنَ تعالى أنَّه مِنْ أَجْلِ فِعْلِ
ابْنِ آدم الأول ، كتب وفرض أنه من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها ، فهو مثل من قتل
الناس جميعا. لذلك استُبعد العفو عن قاتل النفس لقوله تعالى ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾([7]).
فالله تعالى كرّم الإنسان ووهبه الحياة، والقاتل معاندٌ لله، ولقد ثبت النهي عن قتل
الحيوان بغير حق والوعيد على ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بقتل المسلم، فكيف بقتل التقي
الصالح، قَالَ صلى الله عليه وسلم: « دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِى هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا
فَلاَ هِىَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ هِىَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ
حَتَّى مَاتَتْ »([8]).
هذا في الحيوان ، وقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ
إِلاَّ بِالحَقِّ ﴾([9]).
هذا في كُلِّ نَفْسٍ معصومة، وقال صلى الله
عليه وسلم- « قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا
»([10]).
هذا في المسلم الذي رفع الله قدره وأعلى منزلته، قَالَ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما
، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ «
مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ ، وَالَّذِى
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً
مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا »([11]).
فمكانة
المسلم عند الله تعالى وحرمة ماله ودمه أعظم من حرمة الكعبة، فمن اعتدى على مال مسلم
بأن أخذه منه ظلما، أو اعتدى عليه بأن قتله ، فقد ارتكب جرما يفوق أي اعتداء على الكعبة
المشرفة، لذلك حقَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أن يقول " إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ
الأُمُورِ الَّتِى لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا ، سَفْكَ الدَّمِ
الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ"([12]).
ثُمَّ
لنسأل القاتل: ماذا يكون جوابك عندما تُسْأَلُ يوم الحساب، قال ابن عباس رضي الله
عنهما : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: « يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا
رَأْسَهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ - أي حاملا رأسه بيده - مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ
الأُخْرَى - أي قابضا على عنقه - تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا - أي تجري عروقه دما -
حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِلَّهِ: رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي،
فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وُيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ»([13]).
فلو فكر الناس فيما يلحق سفاكي الدماء، من خزي يوم الجزاء، ما سُفِكَ دَمٌ حرام.
عباد الله :
لعلنا اليوم نعيش في الزمن الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم « وَالَّذِى
نَفْسِى بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَدْرِى الْقَاتِلُ فِى
أَىِّ شَىْءٍ قَتَلَ وَلاَ يَدْرِى الْمَقْتُولُ عَلَى أَىِّ شَىْءٍ قُتِلَ »([14]).
فها
هي الأخبار تذاع كل يوم عن حوادث سفك الدماء لسبب أو لغير سبب، فهؤلاء أناسٌ آمنون
يُعتدى عليهم بالقتل والخطف ، وهؤلاء لصوص أو مغتصبين لا يكتفون بجريمة السرقة أو الاغتصاب
بل يضيفون إليها أيضا الخطف والقتل، وعلى أتفه الأسباب ، في جرأة واستمتاع بإزهاق هذه
الأروح المعصومة ، وإن مما يدمي القلب أن جل هذا الاقتتال اللامعقول يقع في بلاد الإسلام
، فهل بدأ يتحقق ما أخبر عنه الصادق الأمين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام عندما قال:
« إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا ». قَالَ رَاوِيِ الحديث قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا الْهَرْجُ قَالَ « الْقَتْلُ ». فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ : إِنَّا نَقْتُلُ الآنَ فِى الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَذَا
وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ
، وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ وَابْنَ
عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ ». فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَعَنَا
عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهُ
لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ
النَّاسِ لاَ عُقُولَ لَهُمْ »([15]).
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهل من العقل ما يقع اليوم من سفك للدماء في بلادنا
وبلدان المسلمين ؛ اللهم إنا نسألك حفظك ولطفك، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ما فسد
من أحوالنا ، وَلاَ تَجْعَلْنَا يَا رَبَّنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ،
واكتب لنا العاقبة الحسنة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو
الغفور لرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد
لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً
عبدهُ ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وآله وصحبه إلى يوم الدين . أما بعد: فيا عباد
الله: لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ من فتن آخر الزمان، وأمر المسلم بالاعتصام
بحبل الله ودينه، وعدم الانسياق خلف الأهواء والفتن، فقال صلى الله عليه وسلم «. وَإِنَّ
أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِى أَوَّلِهَا ، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ
وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَتَجِىءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا . فَمَنْ
أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ
وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى
يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى .»([16]).
فإذا أراد أن يُرْحَم فليرحمْ هو خَلق الله، وإذا أراد أن يُحْسِنَ الناسُ بِهِ الظَّنَّ
؛ فَلْيُحْسِنْ ظَنُّهُ بالنَّاس، وإذا أراد أن تُصان أمواله ونفسه، فليبدأ هو وليسلم
الناس من لسانه ويده ، إننا بحاجةٍ إخوةَ الإيمان : إلى أن نتكاتف ونتراحم ونتعاون
فيما بيننا، للقضاء على هؤلاء القتلة والمخربين والمفسدين ، فحفظ الأمن وحفظ مكتسبات
الوطن مسئولية الجميع، فلا بد من التعاون المثمر بين جميع فئات المواطنين ، وأجهزة
الأمن المختلفة ، لكي يتحقق لنا الخير وننعم بالأمن والأمان في هذا البلد المبارك
. جعلنا الله وإياكم ممن يعظمون حرماتِه، وجنبنا الله وإياكم سخطه وعذابه وبأسه، وألبسنا
لباس التقوى خير لباسِه، وعصم الله دماء المسلمين في كل مكان، إنَّه على كل شيء قدير.
عباد الله : صَلُّوا على رسول الله ، صلُّوا وسلِّموا على من أمرنا من ربِّنَا
بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾([17]). اللهم
صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدِك ورسولِكَ سيدنا محمدٍ ، وارضَ
اللهم عن آله وأصحابِهِ أجمعين ،وعنَّا معَهم بمنِّكَ وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ
الراحمينَ . اللهم وفقنا لتعظيم حرماتك، وارزقنا برك وإحسانك، وعمنا جميعاً بفضلك ورحمتك
، اللهـم وحـد صفـوفنا ، اللهـم أطفـئ نيـران
الفتـنة فـي بلادنا، اللـهم من أراد لبلادنا الخيـر فخــذ بيــده ، ومن أراد لها الشَّرَّ فخـذه أخـذ عــزيز مـقتــدر ، اللـهم انصـرنــا عـلى مـن عـادانـا ، اللهم إنا
نستودعك ليبيا وأهلها ، أمنها وأمانها ، ليلها ونهارها ، أرضها وسمائها ، مرافقها ومنشآتها
، فاحفظها يا ربنا واحقن دماء أهلها ، يامن لا تضيع عنده الودائع ، ردها يا ربنا لخير
أحوالها ولما يرضيك عنها وعن أهلها ، برحمتك وجودك وعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين ،
اللهم ارحم شهدائنا ، واحقن دمائنا ، واحفظ أمن بلادنا، ووفقنا لما فيه الخير لنا
، اللـهم لـم شملنـا ، اللـهم ألـف بيـن قلـوبنـا ، اللـهم ردنـا إلـى ديـنك مـردا
جمــيلا ، اللـهم أرجـعنا أخـوانا متـحابيــن فيـك ،يا رب العالمين ؛ اللَّهُمَّ اغفِرْ
للمسلمينَ والمسلماتِ ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ،إنك سميعٌ
قريبٌ مجيب الدعوات ، واشْمَل اللَّهُمَّ بعفوِكَ وغفرانِكَ ورحمتِكَ آباءَنَا وأمهاتِنَا
وجميعَ أرحامِنَا ومَنْ كانَ لهُ فضلٌ علينَا ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الْمَغْفِرَةَ
والثَّوَابَ لِمَنْ بَنَوا هَذَا الْمَسْجِدَ ولمن أنفق وينفق عليه ، ولمن عمل فيه صالحا وإحسانا يا رب العالمين .
ليست هناك تعليقات