الخشوع في الصلاة
الخشوع في الصلاة
الحمد لله رب العالمين ، جعل الخشوع في الصلاة من سمات
المؤمنين ، وطريقاً للوصول إلى مراتب المُفلحين ، أحمده تعالى وأشكره ، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيَّدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله
إمام المتقين ، وأشرفُ الخاضعين والخاشعين ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد
وعلى آله وأصحابه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . أما بعدُ فيا
أيها المسلمون : نوصي أنفسنا جميعا بتقوى ربِّ العالمين ، وأن نكون بديننا متمسكين
، وعلى عموده محافظين ، وفيه خاشعين خاضعين ، يقول سبحانه وتعالى { حَافِظُواْ عَلَى
الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ، وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }البقرة238.
معاشر المسلمين : يتساءل الكثيرون منا عن الخشوع في الصلاة ، وكيف يُبَلَّغُونَهُ
، وما السبيل إلى تحقيقه ، ولهؤلاء نقول :
أن الصلاة صلة بين العبد وربِّه ، فيقف المسلم بين يديه
مكبِّرا معظِّما يتلوا كتابه ويسبِّحه ويعظِّمه ، ويسأله من حاجات دينه ودنياه ، فجديرٌ
بمن كان مُتَّصِلاً بربه ، أن ينسى كلَّ شيءٍ دونه ، وأن يكون حين الصِّلة ، خاشعا
قانتا مطمئنا مستريحا ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الصَّلاَةُ قُرَّةَ أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِين
، وراحةِ قُلُوبهم ، لما يجدونه فيها من اللِّذة ، والأنس بربهم ومعبودهم ومحبوبهم
، جديرٌ بمن اتصل بربه ، أن يخرج من صلاته بقلب غير القلب الذي دخلها فيه ، أن
يخرج مملوءاً قلبُه فرَحاً وسرورا ، وإنابةً إلى ربه وإيمانا ، ولذلك كانتِ الصَّلاةُ تنهى عن
الفحشاء والمنكر، لِمَا يَحْصُلُ للقلب منها من النُّور والإيمان والإنابة ، جديرٌ
بمن عرف حقيقة الصَّلاة وفائدتها وثمراتها
، أن تكون أكبر همِّه ، وأن يكون مُنتظرا ً لها ، مشتاقا إليها ، ينتظر تلك الساعةِ
بغايةِ الشوق ، حتى إذا بلغها ، ظَفِرَ بِمطلُوبِه ، واتَّصل اتِّصالاً كاملاً
بمحبوبه جل وعلا ، وحينئذٍ تكونُ الصَّلاةُ راحةً قلبية ، وطمأنينة نفسية ، وَقُرَّةَ
عَيْنٍ حقيقية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد
والنسائي ،عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه « وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِى الصَّلاَةِ
». وفي المسند أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال « قُمْ يَا بِلاَلُ
فَأَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ ». إِنَّهَا الرَّاحَة الدائمة للنُّفُوس المطمئنة .
أيها المسلمون : إن كثيرا من المصلين لا يعرفون فائدةَ الصَّلاةِ حقيقة
، ولا يقدرونها حقَّ قدرها ، ولذلك ثقلت الصلاة عليهم ، ولم تكنْ قرَّةً لأعينهم ،
ولا راحةً لأنفسهم ، ولا نوراً لقلوبهم ، وكيف تكون كذلك ، ونرى الكثير منهم ، ينقرون
الصلاة نقر الغراب ، لا يطمئنُّون فيها ، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا ، وهؤلاءِ
لا صلاةَ لهم ، ولو صلَّوْا ألف مرة ، لأنَّ الطُّمَأْنِينَةَ في الصلاة ركنٌ من
أركانها ، ولذلك جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ
فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم السَّلاَمَ وقَالَ للرجل « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ
». حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِى بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا عَلِّمْنِي . فَقَالَ له رسول الله صلى اله
عليه وسلم « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ
مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ
حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا ». ولكننا
يا عباد الله : نجد كثيرا من النَّاس ، لاَ يَطْمَئِنُّ في صلاته ولا يخشع فيها ،
يصلي بجسمه لا بقلبه ، جسمه في المُصَلَّى ، وقلبُه في كل واد ، فليس في قلبِه
خشوع ، لأنه يجول ويفكر في كلِّ شيء ، حتى في الأمور التي لا مصلحةَ له فيها ،
وهذا يُنقصُ الصَّلاةَ نقصاً كبيرا ، وهو الذي يجعلها قليلة الفائدة للقلب ، بحيث
يخرج هذا الْمُصَلِّي من صلاته ، وهي لم تزده إيمانا ولا نورا ، وقد فشا هذا الأمر
– أعني الهواجس في الصَّلاة – في زماننا هذا ، لكثرة المشاغل والملهيات ، والفتن والمصائب
؛ والذي يعين على إزالته ، هو أن يفتقر العبد إلى ربه ، ويسأله أن يعينهُ دائماً
على إحسان واتقان العمل ، وأن يستحضر عند دخوله في الصَّلاة : أنه سيقف بين يدي
ربه وخالقه ، الذي يعلمُ سرَّه ونجواه ،
ويعلم ما توسوس به نفسه ، وأن يعتقد بأنَّه إذا أقبل على ربه بقلبه ، أقبل الله
عليه ، وإن أعرض ، أعرض الله عنه ، وأن يُؤْمِنَ بأنَّ رُوحَ الصَّلاةِ وَلُبَّهَا
هو الخشوع فيها ، وحضور القلب ، وأنَّ الصَّلاة بلا خُشوعِ القلب ، كالجسم بلا روح
، وكالقشور بلا لُبٍّ .
ومن الأمور التي
تستوجب حضور القلب إخوة الإيمان : أن يستحضر المصلي ، معنى ما يقول وما يفعل في
صلاته ، وأنَّه إذا كبَّر ، ورفع يديه ، فهو إقرارٌ لله بالكبر ، « فَإِذَا قَالَ
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِى
، وَإِذَا قَالَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَىَّ
عَبْدِى. وَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }. قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِى . فَإِذَا
قَالَ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. قَالَ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ
عَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ
}. قَالَ هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ ». ، هكذا يجيبنا مولانا من فوق
سبع سموات ، فلنستحضر ذلك عند صلاتنا. وإذا ركع فيقول سبحان ربيَّ العظيم فهو إقرارٌ
بعظمةِ الله ، وإذا سجد فيقول سبحان ربيَّ
الأعلى ، تواضعاً أمام علوِّ الله تبارك وتعالى . فما ظنك أيها المسلم إذا آمنت
بأن الله تعالى ، يُقْبِل عليك إذا أقبلت عليه في الصلاة ، وأنه يسمعُ كلَّ قولٍ
تقوله ، وإن كان خفيّاً ، ويرى كُلَّ فعلٍ تفعله ، وإن كان صغيرا ، ويعلمُ كُلَّ
ما تفكرُ فيه ، وإن كان يسيرا ، إذا نظرت إلى موضع سجودك ، فالله يراك ، وإن أشرت
بإصبعك عند ذكر الله في التَّشهد ، فإنه تعالى يرى إشارتك ، فهو تعالى المحيط
بعبده علما وقدرة ، وتدبيرا وسمعا وبصرا ، وغير ذلك من معاني ربوبيته ، فلنتق الله
عباد الله في صلاتنا ، ولنحافظ عليها ، وعلى الخشوع فيها ، فقد قال ربنا في كتابه {
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ،} المؤمنون 1 – 11 . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم
بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر
المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله الحكيم العليم ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ، هو الرحمن الرحيم ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ،
صلى الله وسلم وبارك عليه ، صلاةً وسلاما متلازمين إلى يوم الدين . أما بعد :
فنوصي أنفسنا جميعا بتقوى الله تعالى ، وإقامة صلاتنا بقلوب حاضرة خاشعة ، وبحركاتٍ
ثابتة متأنيَّةٍ مطمئنة ، واستشعار عظمة وجلال الخالق جل وعلا ، وتصفية القلوب من الصوارف
عن الله والدار الآخرة ، والتخفف من شواغل الدنيا ، وعمارة القلوب بالإيمان ، وسد
منافذ الشيطان ، وكذلك قصر النظر على موضع السجود ، والترتيل والتَّدبر فيما نقرأ
من القرآن ، سواء في الصلاة الجهريَّة أو السريَّة ، فربُّ السرِّ هو ربُّ العلن ،
وكذلك فيما يردد من الأدعية ، وعدم الالتفات ، ومراعاة الطمأنينة ، والحذر من
العجلة والمسابقة ، والعبث بالحركة ، كل ذلك مع توفيق الله عز وجل ، من الأسباب
التي تُعين المسلم على الخشوع في صلاته ، في سنن الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى
الله عنه ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ
بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ
أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ.. ». نسأل الله
تعالى ، أن يعيننا على أداء صلاتنا على الوجه الأكمل الذي يرضيه عنا ، وأن يوفقنا
للخشوع فيها ، إنه سميع قريب مجيب الدعاء ، هذا ولنكثر في هذا اليوم المبارك ، من
الصلاة والسلام على الناصح الأمين ، سيِّد الأولين والآخرين ، وأفضل الخاشعين ،
كما أمرنا الله رب العالمين ، فقال وهو أصدق القائلين {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً }الأحزاب56 . اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله
وصحبه وسلم ، اللهم اجعلنا في صلاتنا من الخاشعين ، وعلى طاعتك يا ربنا مقبلين ،
ومن ذنوبنا مستغفرين ، ومن معاصينا تائبين ، ولك يا ربنا محبين ، ولسنة سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم عالمين عاملين ، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه ، من صالح القول
والعمل ، يا رب العالمين ، اللهم احفظنا وبلادنا وبلدان العرب والمسلمين ، من كل
همٍ وغمٍ يارب العالمين ، اللهم ول أمورنا خيارنا ، ولا تول أمورنا شرارنا ، وارفع
مقتك وغضب عنا يا الله يا كريم ، اللهم اجعل للإسلام والمسلمين عزةً وقوةً ومنعة ،
وللظالمين والمفسدين ذِلَّةً ومهانةً يا قوي
يا متين. اللهم اغفر لنا ولولدينا ، ولمن بنى هذا
المسجد ، ومن أنفق وينفق عليه ، ولمن صلى فيه ، وعمل فيه ونظر إليه بإحسان ، اللهم
قوِّ إيماننا أجمعين ، واحفظنا من نزغات الشياطين
، واغفر لنا ولولدينا ولجميع المسلمين ، يا رب العالمين .
ليست هناك تعليقات