الالتجاء إلى الله
الالتجاء إلى الله
الحمد
لله الذي لا يكشف الضرّ إلاّ هو ، والحمد لله الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلاّ إليه
، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ، ونتوب إليه من كلّ الذّنوب والخطايا
، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ هو، وأشهد أن لاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد
أنّ سيّدنا ونبينا محمّداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
، ومن نهج نهجه وسلك طريقه ، ودعا بدعوته إلى يوم الدين ، أما بعد: فأوصيكم عباد الله
ونفسي بتقوى الله { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
}البقرة194 .
معاشر المسلمين:
روى البخاري ومسلم عَنِ الْبَرَاءِ بْنُ عَازِبٍ أَنَّه قال ، قال لي رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم « إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ
، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ
وَجْهِى إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ،
رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ،لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ
، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ ، وَاجْعَلْهُنَّ
مِنْ آخِرِ كَلاَمِكَ ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ ، مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ
». فتأمل معي أيها المسلم رعاك الله : ببصرك النَّافذ ، لترى كيفَ تُوَجَّهُ القلوب
إلى بارئها، وَكَيْفَ تُرْبَط الأفئدةُ بمولاها، فحين يأوي المسلم إلى فراشه ، ويُغمض
عينيه ، وقد ودّع يومه واستقبل نومه، وإذ به يُجَدِّدُ العهد مع الله ، وَيَخْتِمُ
مسيرة يومه بالتسليمِ لمولاه ، وَتَفْوِيِضِ الأمر إليه ، والاعتصام به سبحانه، «
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ .. لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ
إِلاَّ إِلَيْكَ ».
إنه التَّسْلِيمُ لله وحدهُ واللجوءُ إليه، اللجوءُ لمن بيده النَّفْعُ وَالضُّر، والنصر
وَالذُّل ، يقول سبحانه { وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
}آل عمران101
. ويقول جلَّ في علاه { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ }الحج78.
إن التسليم لله والتفويض إليه ، قبل وبعد فعل الأسباب المقدور عليها ، من شأنه أن يريح
النفس ، من عناءٍ لا طَائِل منه، وَيَرْبِطُ على القلوب، فتجدها أثبت ما تكون ، في
أوقات الأزمات والشدائد، وكيف لا يكون ذلك ، وهو يأوي إلى ركن شديد و رب مجيد؟!
كم
نحن بحاجة إخوة الإيمان : إلى اللجوء إلى الله في كل ما يَعْرِضُ علينا ، من ظلمٍ وعدوان
، أو فقر وحرمان ، أو مرضٍ في الأبدان ، أو غير ذلك مما لا يملك كشفه وإزالته إلا الله
وحده ، { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ،قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَسْلَمَ }الأنعام14
أيها المسلم :
إذا حلَّ الهمّ ، وَخَيَّمَ الغمّ ، واشتدَّ الكرب ، وَعَظُمَ الخطب ، وضاقت السبل
، وبارت الحيل ، فنادِ الربَّ بدعاء الكرب: « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ
الْحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ، وَرَبُّ الأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ » رواه
البخاري. عندها يُفْرَجُ الهمّ وَيُنَفَّسُ الكرب
، وَيُذَلَّلُ الصّعب.
إذا
أجدبت الأرض ، ومات الزرع ، وجف الضرع ، وذبلت الأزهار، وغار الماء ، وقلّ الغذاء ، فمن المغيث إلا الله؟!
لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه. إذا اشتدّ المرض بالمريض ، وضعف جسمه وشحب لونه
، وقلت حيلته وضعفت وسيلته ، وعزَّ الطبيب وحار المداوي ، ووجف القلب وانطرح المريض
ينتظر المقدور ، فَمَنِ المُؤَمَّلُ غير الله؟! « ..اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِى لاَ شِفَاءَ
إِلاَّ شِفَاؤُكَ .. » البخاري
.
دبَّ
الألم في أيوب عليه السلام، وزاد البلاء عليه في ماله وولده وجسده، حتى لم يبقَ في
جسده مَغْرِز إبرة ، إلا وفيه من الضر ما فيه، واستمرّ به البلاء سنين، فلجأ إلى الله
واتجه إلى مولاه ، { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }الأنبياء83،
فجاء جبريل برسالة: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ، هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }ص42
وليس العجب لو ركض جبريل ، إنما العجب أن يركض العليل ، فزال الوباء وانكشف البلاء
، { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ، وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم
مَّعَهُمْ ، رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ، وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }الأنبياء84.
إذا اعترض الجنينُ في بطن أمه، وَعَسُرَتْ ولادته وَصَعُبَتْ وِفادته، وأوشكت الأمُّ
على الهلاك وأيقنت بالممات، فعندها لا يكون الملجأ إلا إلى الله ، {أَمَّن يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ
، أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }النمل62.
إذا
خط الشيب في العارضين ، وكبر السن ورق العظم ، ولا عقب ولا ذرية ، فالمُتَّجَه الله
والمؤمَّل الله، {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ
خَيْرُ الْوَارِثِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً
وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } الأنبياء:89،
90.
إذا
انطلقت السفينة بعيدًا بعيدًا في البحر اللُّجي، وهبَّت الزوابع، وتسابقت الرياح، وتلبَّد
الفضاء بالسُّحب، واكفهر وجه السماء، وأبرق البرق، وأرعد الرعد، وكانت ظلماتٌ بعضها
فوق بعض، وهبَّت الأمواج بالسفينة، وذهبت عن القلوبِ السكينة، وأشرفت على الغرق، وتربص
الموت بالرِّكاب، فمن المُؤمَّل؟! وَمَنِ الملجأ والملاذ؟! إنه الله لا ملجأ ولا منجى
منه إلا إليه. {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، تَدْعُونَهُ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ، لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
، قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ، ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
}الأنعام:63، 64.
ركب
يونس البحر، فساهم فكان من المدحضين، فَأُلْقِيَّ في لُجَجِ البحار، وانقطع عنه النهار،
والتقمه الحوت، فصار في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، فأين التجأ؟! وبمن اعتصم؟! لقد نادى
في الظلمات: { أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
}الأنبياء87
، فسمع الله نداءه وأجاب دعاءَه، فنجَّاه من الغم، وكذلك ينجِّي المؤمنين.
إذا
حلَّقت الطائرة في الأفق بعيدًا، وكانت معلقةً بين السماء والأرض، فأشَّرَ مُؤَشِّرُ
الخلل ، وظهرت دلائل العطل، فَذُعِرَ القائد، وَارْتَبَكَ الرُّكاب، وضجت الأصوات،
فبكى الرجال وصاح النساء وفجع الأطفال، وعم الرُّعب وخيّم الهلع وعظم الفزع ، فإلى
من الملتجأ؟! إنه الله الذي يُمْسِكُهَا كَمَا أَمْسَكَ الطير، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }الملك19.
يَارَبِ
عَفْوَكَ لَا تَأْخُذْ بِزَلَّتِنَا
وَارْحَمْ آيَارَبِ ذَنْباً
قَدْ جَنَيْنَاهُ
كَمْ
نَطْلُبِ اللهَ فِي ضُرٍ يَحِلُّ بِنَا
فَإِنْ تَوَلَّتْ بَلاَيَانَا
نَسِينَاهُ
نَدْعُوهُ
فِي الْبَحْرِ أَنْ يُنْجِي سَفِينَتَنَا
فَإِن رَّجَعْنَا إِلَى الشَّاطِي
عَصَيْنَاهُ
وَنَرْكَبُ
الْجَوَّ فِي أَمْنٍ وَفِي دَعَةٍ
فَمَا سَقَطْنَا لِأَنَّ الْحَافِظَ
اللهُ
نسأل
الله تعالى أن لا يكون حالنا ممن قال الله فيهم {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ
أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } فصلت51
. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر
الحكيم ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد
لله الولي الحميد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه
المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد وهو
الحميد المجيد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
والتابعين وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أنَّ الله
تعالى هو الملاذ في الشدة ، والأنيس في الوحشة والنصير في القلة. يقول سبحانه
وتعالى { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ، وَإِن يَمْسَسْكَ
بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ }الأنعام17.
فلنغتنم هذا المكان وهذا الزّمان ونحن بين يدي الله تعالى ، وليستحضر كلّ منّا حاجته
لخالقه العليّ القدير ، السّميع البصير، مفتتحين دعاءنا بالصّلاة والسّلام على المبعوث
رحمة للعالمين ، فقد أَمَرَنَا ربنا بالصلاة والسلام عليه بقوله عزَّ قائلاً
عليماً {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
}الأحزاب56 ، اللهم صل
وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللّهمّ يا أرحم الرّاحمين يا ربّ العالمين يا ناصر المستضعفين يا مفرّج كربة المكروبين ، نسألك
يا الله أن ترحمنا رحمة واسعة تشفي بها سقيمنا ، وتهدي بها ضالّنا وتقضي بها حوائجنا
، وترجع بها غائبنا ، وترحم بها موتانا . اللهمّ فعافنا واعف عنّا ، عافنا يا ربّنا
في أسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا ، ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا
ولا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا . اللّهمّ إنّا ظلمنا أنفسنا ظلما
كثيرا ونحن نعلم علم يقين أنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت فاغفر لنا ، اغفر لنا ما قدّمنا
وما أخّرنا وما أسررنا وما أعلنّا وما أنت أعلم به منّا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات،
والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، ربنا آتنا
في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم عباد الله : {إِنَّ
اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90
.
ليست هناك تعليقات