جديد المدونة

وقفات مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما

وقفات مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما


إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه ، و على آله و أصحابه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الديـــن و سلم تسليما كثيرا . أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فالتقوى سبيل المؤمنين، و بها النجاة في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الناس لرب العالمين، قال جل وعلا: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } .
حضرات المسلمين : نقف وإياكم في هذه الخطبة ، مع حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ووصية من وصاياه العظيمة المباركة ، فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي فَقَالَ « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ . فلو تأملنا إخوة الإيمان في حقيقة هذه الدنيا ، نعلم أنها لم تكن يومًا دار إقامة ، أو موطن استقرار ، ولئن كان ظاهرها يوحي بنضارتها وجمالها ، إلا أن حقيقتها فانية ، ونعيمها زائل ، كالزَّهرة النَّضرة التي لا تلبث أن تذبل ويذهب بَرِيقُهَا . الدنيا التي غرّت النَّاس ، وألهتهم عن آخرتهم ، فاتخذوها وطناً لهم ، ومحلاً لإقامتهم ، لا تصفو فيها سعادة ، ولا تدوم فيها راحة ، ولا يزال النَّاس في غمرة الدنيا يركضون ، وخلف حطامها يلهثون ، حتى إذا جاء أمر الله انكشف لهم حقيقة زيفها ، وتبين لهم أنهم كانوا يركضون وراء وَهْمٍ لا حقيقة له ، وصدق الله العظيم إذ يقول {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }آل عمران185 . فما كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ليترك أصحابه دون أن يبيّن لهم ، ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم في الدنيا ، ودون أن يُحَذِّرَهم من الركون إليها ؛ فهو الرحمة المهداة ، والنَّاصح الأمين ، فكان يتخوَّلُهم بالموعظة ، ويضربُ لهم الأمثال ، ولذلك جاء هذا الحديث العظيم ، بياناً وحُجَّةً وَوَصِيَةً خالدة . لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكب عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما ، ليسترعي بذلك انتباهه ، ويجمع إليه فكره ، وَيُشْعِرُهُ بِأَهَمِّيَةِ ما سيقُولُهُ له ، فانسابت تلك الكلمات إلى روحه مباشرة : « كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » وانظر كيف شَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، مُقام المؤمنين في الدنيا بحال الغريب ؛ فإنَّك لا تجد في الغريب رُكُونًا إلى الأرض التي حلَّ فيها ، أَوْ أَنِسَ بأهلها ، ولكنه مستوحشٌ من مقامه ، دائم القلق ، لم يُشْغِلَ نفسه بدنيا الناس ، بل اكتفى منها بالشيء اليسير ، لقد بيّن الحديث غربة المؤمن في هذه الدنيا ، والَّتِي تَقْتَضِي منه التمسّك بالدين ، وَلُزُومَ الاستقامة على منهج الله ، حتى وإن فسد الناس ، أو حادوا عن الطريق القويم ؛ فصاحبُ الاستقامةِ له هدفٌ يصبُو إليه ، وسالك الطريق لا يُوهِنُهُ عن مواصلة المسير تخاذل الناس ، أو إيثارهم لِلدِّعَةِ والراحة ، وهذه هي حقيقة الغربة ، التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ». رواه مسلم .
وإذا كان المسلمُ سالكاً لطريق الاستقامة ، حَرِصَ على قِلَّةِ مُخَالَطَةِ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْوَرَعْ ، ضَعِيفِ الدِّيَانَةِ ، فَيَسْلَمُ بذلك من مساوئِ الأخلاق ،الناشئة عن مجالسة بعض الناس، كالحسد والغيبة والنميمة، وسوءِ الظن بالآخرين ، وغير ذلك مما جاء النَّهي عنه ، والتحذير منه .ولا يُفهم مما سبق ، أن مُخالطةَ الناسِ مَذْمُومَةً بِالجملة ، أو أن الأصل هو اعتزال الناس ومجانبتهم ؛ فإن هذا مخالفٌ لأصول الشريعة ، التي دعت إلى مخالطة الناس، وتوثيق العلاقات بينهم ، يقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13، وقد جاء في الحديث الصحيح عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِى لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ». رواه الترمذي ، ولنا في رسول الله أسوة حسنة ، حين كان يخالط الناس ولا يحتجب عنهم . وإنما الضابط في هذه المسألة : أن يعتزل المرء مُجَالسة من يضرّه في دينه ، وَيُشْغِلُهُ عن آخرته ، بِخِلاَفِ من كانت مُجَالَسَتُهُ ذِكْراً لله ، وتذكيرا بالآخرة ، وتوجيها إلى ما ينفع في الدنيا والآخرة .
ولنا عودة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : « كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ »، ففي هذه العبارة، تَرَقٍّ بحال المؤمن من حال الغريب ، إلى حال عابر السبيل .
فعابرُ السبيل : لا يأخذ من الزادِ سوى ما يكفيه مَؤُونَةَ الرحلة ، وَيُعِينُهُ على مواصلةِ السفر ، لا يَقِرُ له قرار ، ولا يُشْغِلُهُ شَيْءٌ عن مواصلة السفر ، حتى يصل إلى أرضه ووطنه .
يقول الإمام داودٌ الطَّائِيُّ رحمه الله : " إِنَّمَا اللَّيْلُ والنَّهَارُ مَرَاحِلَ يَنْزِلُهَا النَّاسُ مرحلةً مرحلة ، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أن تُقَدِّمَ في كُلِّ مَرْحَلَةٍ زادًا لما بين يديها فافعل ؛ فإن انقطاع السَّفَرِ عَمَّا قريب ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزود لسفرك ، واقض ما أنت قاض من أمرك " . وهكذا يكون المؤمن ، مقبلا على ربه بالطاعات ، صارفاً جهده ووقته وفكره في رضا الله سبحانه وتعالى ، لا تُشْغِلُهُ دنياه عن آخرته ، قد وَطَّنَ نفسه على الرحيل ، فَاتَّخَذَ الدُّنيا مطيَّةً إلى الآخرة ، وَأَعَدَّ الْعُدَّةَ لِلِقَاءِ رَبِّه ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَّ اللهُ عنْهُ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا ، هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ ». رواه الترمذي .
ذلك هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يُوصِلُهُ إلى عبد الله بن عمر ، فكان لهذا التَّوْجِيه النَّبَوي أَعْظَمَ الأثر في نفسه ، وَيَظْهَرُ ذلك جليًّا في سيرته ، فإنَّه ما كان لِيَطْمَئِنَّ إلى الدُّنْيَا أو يركن إليها ، بل إنَّه كان حريصا على اغتنام الأوقات ، كما نلمس ذلك في وصيّته الخالدة عندما قال : إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ . فما أحوجنا إخوة الإيمان ، لتنفيذ هذه الوصايا ، والعمل بمقتضاها ، اللهم أصلحنا وأصلح أعمالنا ، وتقبل منا إنك سميع مجيب . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ...

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : ما أحوجنا ونحن نتذاكر وإياكم هذا الحديث العظيم ، أن نجعل منه منهجا نتخذه في حياتنا ، فنكون كعابر السبيل ، الذي لا يقر له قرار إلا بوصوله إلى وطنه ، وهي الجنة جعلنا الله وإياكم من أهلها ، فالمؤمن لا يضيع عمره في القيل والقال ، والكلام على هذا أو ذاك وانتهاك حرمات إخوانه ، لأنه يعلم أن العمر مهما طال قصير ، والعمل فيه مهما كثر قليل ، فاستقيموا رحمكم الله على طاعة الله ، وابتعدوا عن تضييع الأوقات في مجالس اللهو الباطل ، فإن الموت يأتي بغتة، والسعادة كل السعادة ، أن يفارق الإنسان الدنيا ، وهو ثابت على منهج الله ، وهذه النهاية لا يُحَصِّلها إلا من عاش على هذا المنهج وسلك هذه الطريق، فيثبته الله في الدنيا والآخرة ، يقول سبحانه وتعالى { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }إبراهيم27 . فإن أردتم هذا الثبات في الدنيا والآخرة . فاعملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » اللهم إنا نسألك أن تثبت قلوبنا على الإيمان الكامل ، وأن تعُمَّنا ووالدينا بلطفك الشامل ، اللهم وفقنا لصالح الأعمال ، ونجنا من جميع الأهوال ، وآمِّنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال ، وبارك لنا في الأعمار ، والأولاد والأموال ، ولا تقطع منا في الحياة والممات صالح الأعمال ، واشف بلطفك مرضانا ، وارحم بفضلك موتانا ، واستر علينا عيوبنا ، واغفر لنا ذنوبنا ، وأصلح لنا شأننا كله ، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ...







ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون