جديد المدونة

ما بعد رمضان


ما بعد رمضان

الحمد لله الذي شرّف المؤمنين بطاعته ، ورفع رؤوسهم بحمل دينه ، والاستجابة لأمره ونهيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أمّا بعد: أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، اتّقوا الله فإن تقواه أفضل مُكتَسب وطاعته أعلى نسب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران: 102.

عباد الله: مضَى رمضانُ ، وانقضَى بلياليه الزاهرة، وأيّامِه العامرَة ، وأجوائه العاطِرَة ، واستيقَظتِ القلوبُ بعد غَفوة، ولانَت بعدَ قَسوةٍ، ورَجعت بعد سَهوة، أمّا القَبول فعلاماتُه لامحة ، وأماراتُه لائِحة ، وآياتُه واضحة ، حسنةٌ تتبعها حسَنة، وطاعةٌ تؤكِّدها طاعة، وإحسانٌ يتلوه إحسان، وذاكَ دَأب العارفين بالله، الخائِفين من سَطوتِه وعقوبَتِه، الراجين لثوابِه وجنَّته، الذين قوِيَت محبتهم لله عزّ وجلّ ، ومحبّتُهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فأخبتت نفوسُهم لله ، وسكنت ورضِيَت به واطمأنَّت، { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }الزمر: 18.

وأمّا من خارت قواه ، ووهَنت عزائمه، وانعَكس سَيرُه بعد رمضان، فأبطَلَ ما قدَّم ، ونقض ما أحكَم، وبدَّل الحسناتِ بالسّيئات ، وأرخَى لنفسِه العَنان، وعاد إلى الفُسوق والعِصيان، فذاك الخاسِر المغبون ، والغاوِي المفتونُ ، الذي أذهَب بهاءَ طاعته ، وأحبط أجرَ عبادته . روى الطبراني عن قتادة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } محمد: 33، قال: "من استطاعَ منكم أن لا يبطِلَ عملاً صالحًا عَمِلَه بعملٍ سيّئ فليفعل". إنَّ الخير ينسَخ الشرَّ، وإن الشرَّ ينسَخ الخير، وإنَّ ملاك الأعمال خواتيمُها ، قال جل في عُلاه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}النحل: 92، هي امرأةٌ حمقاء خَرقاء ، تجهَد صباحَ مساءَ في معالجة صوفِها، حتى إذا صار خَيطًا سَويًّا ومحكمًا قويًّا ، عادت عليه تحلّ شُعَيراته، وتنقُض محكماته، وتجعله بعد القوة منكوثًا، وبعدَ الصّلاحِ محلولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلاَّ الإرهاقَ والمشاقَّ، فإيَّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم وتبدِّدوا ما جمعتم.

أيّها المسلمون: داوموا على ما اعتدتم من الخيرِ في رمضان، ولا تنقطِعوا عنه، وخذُوا من العَمَل ما تطيقون ملازَمَته ، والثباتَ عليه ولو كان قليلاً، فالقليل الدّائم ينمو ويزكُو، وبِدوام القليلِ يدومُ التعبّد لله والذلّ له والأُنس به والقربُ منه ، والإقبالُ عليه، والكثيرُ الشّاقُّ ينقطِع ولا يدوم ، في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ ». وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ .. وفي صحيح مسلم أيضا عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قَالَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ ؟ قَالَتْ لاَ. كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً ، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ ، وقال الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ « وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ ».رواه مسلم. وكرِه أهلُ العِلم الانقطاعَ عنِ العمل الصالحِ بعد الاعتيادِ عليه ، استنباطًا من حديثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما  قَالَ ، قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  « يَا عَبْدَ اللَّهِ ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ » . متفق عليه.

معاشر المسلمين: ومهما عملنا من الأعمال الصالحة فإن حفظها وسلامتها ، لا يكون إلا بترك المعاصي والمنكرات ، فإنها فسادٌ في العمل ومضيعة للأجر ، فلنستمر على أخلاق رمضان ، التي كنا حريصين عليها ، من صدقة وبذل وعطاء ، وكلام حسن طيب، ومحافظة على صلاة الجماعة في المساجد ، وتلاوة للقرآن وكثرة الذكر ، وأخلاق وسلوك حسنةٍ في الشارع وفي السوق وفي الأعمال ، ومن برٍّ وتواصل مع الأرحام ، وبعدٍ عن الأخلاق السيئة ، ولكي نتبين أهمية ذلك علينا بتأمل هذين الحديثين : عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ »رواه مسلم.وعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ « لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ،وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا} رواه ابن ماجه . اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك يارب العالمين ،.. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانه ، صلَّى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرا. أمّا بعد: فاتقُوا اللهَ عبادَ اللهِ ، وداوموا على الأعمال الصالحة ، واستقيموا عليها كما كنتم في  رمضان ، واعلمُوا أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم قد حثنا على صيام ستة أيام من شهر شوَّال ، فقد قال عليه الصلاة والسلام « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ » رواه مسلم . فلنتق الله عباد الله ولنسأله العفو والمغفرة والرحمة ، فاللهم رحمتك نرجو في هذه اللحظات، فعبادك قد حضروا بين يديك ، قلوبهم وجلة، ونفوسهم منكسرة، واثقون بمغفرتك، طامعون بجنتك ، يا رب: أَنْفُسٌ وَأَنْفَاسٌ اجتمعت هذه الساعة، وفي هذا اليوم المبارك ، ترجو رحمتك وتطمع بالقبول، وتعترف بالتقصير، وتخشى عذابك، فرحماك رحماك بنا، وَتَقَبَّلِ اللَّهُمَّ منا، وارض اللهم عنا، وأعطنا برحمتك ولا تحرمنا ، ونسألك ياربنا أن تتقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا يارب العالمين ، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين ، اللهم اجعل بلدنا ليبيا سخاءً رخاءً أمنا وأمانا ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، وعاف مبتلانا ومبتلى المسلمين ، وارحم الشهداء واهد السفيه والضال إلى الطريق المستقيم ، اللهم اغفر وارحم لمن أسس هذا المسجد المبارك ، وبارك فيمن صلى وعمل فيه ونظر إليه بإحسان يا أكرم الأكرمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. عباد الله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90. اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على عموم نعمه وفضله يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين ، ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ، ويغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين وأقم الصلاة  .       

ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون