جديد المدونة

وداع العام الهجري 1432

وداع العام الهجري 1432

الحمد لله القائل في محكم التنزيل{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ }النور44 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الواحد القهار ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار ، وسلم تسليما كثيرا ،، أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وطاعته { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102 .

إخوة الإسلام والإيمان: تودع الأمة الإسلامية ، عاما هجريا كاملا ، مضى بأحداثه ووقائعه، وخيره وشره ، مضى من أعمار بني آدم ، ولن يعود إلى يوم القيامة، ذهب كما ذهب غيره، وتلك سُنَّة الله عز وجل في كونه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين ، عام هجري مضى ، كان فيه من الأحداث المحزنة والمأساوية ، التي تُقَطِّعُ القلوب ، وتثير المشاعر وَتُدْمِعُ الْعُيُون ، كانت أياما مأساوية ، بكل ما تحمله هذه الكلمةِ من معنى ، أياما قتل فيها الكثير ، وَعُذِّبَ وَجُرِحَ وَتَشَرَدَ فيها الكثير ، واغتصبت وانتهكت فيها الأعراض ، لا لشيء إلا للمطالبة ببعض الحقوق ، في حياة حرة كريمة ، وصحة جيدة ، وتعليم متطور متقدم ، وبنية حديثة متطورة ، فبلادنا غنيةٌ زاخرةٌ بالثروات ، وشعبها يعاني الفقر والمرض والتخلف والجهل ، وكان لا يصله من هذه الثروات إلا القليل القليل ، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، فأكلوا الربا وغرقوا في الديون ، واعتدوا على ممتلكات بعضهم البعض ، رغم هذه الثروات الهائلة ، والتي كانت تتحكم فيها عائلة واحدة ، فاستكبرت وطغت وبغت على الناس ، فأخذها الله عز وجل ، في صحيح البخاري عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ » . قَالَ ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } .. أيام مضت ، كان في تعاقبها من العظة والعبر والدروس ، التي لا ينتفع بها ، إلا أصحاب العقول والبصائر النيرة ، يقول الله تبارك وتعالى { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ }النور44 .. بعض هذه العبر والدروس، بدت واضحة خلال العام الذي مضى ، بسقوط أنظمة كانت حديدية قوية جبَّارة ، سقطت بقدرة الله عز وجل ، فهو الذي يمنح الملك والمال ، والتمكين في الأرض لمن يشاء من خلقه ، ويسلبه ممن يشاء ، ويهب العزة في الدنيا والآخرة لمن يشاء ، ويجعل الذلة على من يشاء ، يقول سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه عليه الصلاة والسلام أن يتوجه له بالدعاء قائلا { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء ، وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء، وَتُعِزُّ مَن تَشَاء ، وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران26 . الله أكبر ، الله أكبر ، فلا بقاء ولا خلود إلا لله الواحد المعبود ، يقول سبحانه وتعالى { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }الرحمن 26 ، 27 . فهذا نبي الله وحبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم ، لم يُكتب له البقاء والخلود ، وذلك حكم الله في عباده كلهم ، يقول سبحانه وتعالى له {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30 . ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتشر خبر وفاته في الناس ، أَقْبَلَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ ، فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدَةٍ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى ، ثُمَّ قَالَ : بِأَبِى أَنْتَ وَاللَّهِ ، لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. ثُمَّ خَرَجَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ ، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ، وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً ، وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }آل عمران144 . قَالَ راوي الحديث ، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ ، إِلاَّ حِينَ تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ ، فَمَا يَسْمَعُ بَشَرًا إِلاَّ يَتْلُوهَا. قَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاَهَا ، فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِى رِجْلاَىَ ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاَهَا ، أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ . أيها الإخوة : إنه الموت ، إنه النهاية لكي حي ، إنها قصة الحقيقة الكبرى في هذا الوجود ، الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين ، وعناد الملحدين ، وطغيان البغاة والمتألهين ، إنها الحقيقة ، التي تمد صفحة هذا الوجود المائج كله ، بغاشية الانتهاء والفناء، وتصبغ الحياة البشرية ، بصبغة العبودية ، والذل لقهار السموات والأرض ، حقيقة ، تسربل بها طوعا أوكرها ، العصاة والطائعون ، والرؤساء المتألهون ، والرسل والأنبياء ، والمقربون والأصفياء ، والأغنياء والفقراء ، ودعاة العلم والاختراع ، إنها الحقيقة التي تُعلن على مدى الزمان والمكان ، وفي أُذُنِ كل سامع ، وعقل كل مفكر ، أن لا أُلُوهية إلا لله وحده ، وأن لاَّ حاكمية إلا لذاك الذي تفرد بالبقاء ، فهو الذي لا مرد لقضائه ، ولا حدود لسلطانه ، ولا مخرج عن حكمه ، ولا غالب إلا على أمره ، أيُّ حَقِيقَةٍ تَنْطِقُ بهذه الدلالة نطقا ، لا لبس فيه ولا غموض ، أعظم من حقيقة الموت وسكرة الموت ، إِذْ قَهَرَ الله بهما سكان الدنيا كلها ، منذ فجر الوجود إلى أن تغيب شمسه ، لقد مر في معبر هذه الدنيا كثيرٌ من أولئك المفترين ، الذي غَرِقُوا في شبرٍ من القوة التي أُتوها ، أو العلوم التي فهموها ، أو المخترعات التي اكتشفوها ، ولكن هذه الحقيقةَ الكبرى ، سرعان مانتشلتهم وألقت بهم في بيداء العبودية ، وأيقظتهم إلى صحو التذلل لقيوم السموات والأرض ، مالكُ الملك كله ، فَقَدِمُوا إلى الله عبيدًا أذِلاء خاضعين ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57 ، إطلاقٌ لا قيد فيه ، وعموم لا مخصص له ، وشمول ليس للدنيا كلها أن تجعل له حدًّا ، فليأت دعاة العلم الجديد ، والرقي الحديث ، وَرُوَّادِ الغزو الفضائي ، فَلْيُجْمِعُوا أمرهم ، وليضفروا جميع إمكاناتهم المختلفة ، وليحشدوا كل أقمارهم المصنوعة ، ومراكبهم المشروعة ، فليستعينوا بذلك كله ، على أن يزيحوا عن أنفسهم شيئا من سلطان هذا الموت الذي قهرهم واستذلهم ، وَلِيُبْطِلُوا بذلك ولو جزءا من هذا التحدي الإلهي { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57 فإن فعلوا ذلك ، فإن لهم حينئذ أن يشيدوا لأَنْفُسِهِمْ صروحا عالية من الجبروت والطغيان ، والتأله والكفران ، وإلا فأحرى بهم، أن يتفرغوا للتأمل في تلك القبور ، التي سيغيبون في أحشائها ، والتربة التي سَيَمْتَدُّونَ تحتها ، وفي القبضة التي سوف لن ينجوا من حكمها ، ولقد كان من اليسير على الله عز وجل ، أن يجعلَ مرتبةَ رسوله صلى الله عليه وسلم ، فوق مستوى الموت وآلامه ، ولكن الحكمة الإلهية ، شاءت أن يكون قضاء الله تعالى في تجرع هذا الكأس بشدتها وآلامها عَامًّا لكل أحد ، مهما كانت درجة قربه من لله جلَّ جلاله ، حتى يعيش الناس في معنى التوحيد وحقيقته ، وحتى يدركوا جيِّدا ، أَنَ كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، فليس لأحد أن يتمطى ليعلو بنفسه عن مستوى العبودية، بعد أن عاش رسول الله صلى لله عليه وسلم ، خاضعا لحكمها ونزل به قضاؤها ، وليس لأحد أن لا يكثر من ذكر الموت وسكرته ، بعد أن عانى حبيب الله تعالى من سكراتها وغشيته آلامها ، وهذا المعنى هو ما أوضحه كلام الله جل جلاله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30 وقوله سبحانه {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ، أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء 34 ،35. نسأل الله تعالى أن يحسن خاتمتنا ، وأن يؤلف بين قلوبنا ، وأن يبارك في أعمالنا وأعمارنا ،،، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ...

الخطبة الثانية

الحمد لله ، لا مانعَ لما أعطاه ، ولا رادَّ لما قضاه، أحمده سبحانه وأشكُرُه ، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ سينا ونبينا محمّدًا رسول الله ، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن والاه ، وسلم تسليما كثيرا .. أما بعد : فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله رحمكم الله ، ثم عليكم أيها الناس ، أن تأخذوا العظة والعبرة من تعاقب الأيام والشهور والأعوام ، ولاتغتروا بقوتكم وأموالكم وأولادكم ، فلا ينفع الإنسان في هذه الدنيا إلا التقوى والعمل الصالح { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ، وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ، وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ، وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }لقمان33 ، فالله الله لا تغفلوا عمن ليس يغفل عنكم ، ولا تنسوا الموت فإنه لا ينساكم ، وفقنا الله وإياكم لحسن الفعال ، وهدانا وإياكم لصالح الأعمال ، إنه الجود الكريم المفضال . ،، هَذَا ثم َصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا رَحِمَكُمُ اللهُ ، عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ ، فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: { إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا } اللَّهُمَّ صَلِّ وسلم وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ .











ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون