رمضان شهر الأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان من أفضل شهور العام، ومنَّ علينا بإدراك شهر الصيام والقيام، فضل أيامه على سائر الأيام، وعمَّر نهاره بالصِّيام، ونوَّر ليله بالقيام ،أحمده سبحانه وأشكره على الإحسان والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،إلهٌ تفرَّد بالكمال والتَّمام، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، أفضل من صلَّى وصام، وَأَتْقَى من تهجد وقام، صلى الله وسلم وبارك عليه ، صلاةً دائمةً تَتَعَاقَبُ بِتَعَاقُبِ الضِّيَاء والظَّلام ، وعلى آله وأصحابه الكرام ، والتَّابعين لهم بإحسان ما تعاقبت اللَّيالي والأيام .. وسلم تسليما كثيراً. أما بعد فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها خير الزاد، وأعظم الوسائل لرضا رب العباد، وتطهير القلوب من الفساد، وبها النَّجاة يوم التَّناد، والفوز يوم المعاد { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }النور52.
إخوة الإيمان : احمدوا الله أن بلغكم شهر رمضان ، احمدوا الله الذي تكرم عليكم ببلوغ شهر الصيام ، اللهم لك الحمد أن بلغتنا شهر رمضان ، ولك الحمد أن بلغتنا شهر التوبة والغفران ، ولك الحمد أن بلغتنا شهر العتق من النيران ، اللهم قد أَطَلَّ شهر رمضان وحضر ، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، اللهم فسلمنا لرمضان ، وسلم رمضان لنا ، وتسلمه منا متقبلا يا رحمان ، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه صبرا واحتسابا ، وارزقنا فيه جدًّا واجتهادا وقوةً ونشاطا ، أللّهُمَّ افْتَحْ لنا فيهِ أبوابَ الجِنان ، وَ أغلِقْ عَنَّا فيهِ أبوابَ النِّيرانِ ، وَ وَفِّقْننا فيهِ لِتِلاوَةِ القُرانِ ، ولقيام ليلة القدر ، واجعلها خيرا لنا من ألف شهر..إنك على كلِّ شيءٍ قدير ، وبالإجابة جدير .
إخوة الإيمان: كان عليه الصَّلاةُ وَالسَّلاَم ، إذا دخل شَهْرَ الصِّيَام ، يقول للصحابة الكرام: « أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، شَهْرُ بَرَكَةٍ ، يَغْشَاكُمْ اللهُ فِيهِ فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ، وَيَحُطُّ الْخَطَايَا، وَيَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْراً ، فَإنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فَيهِ رَحْمَةَ اللهَ »
معاشر الصَّائمين : إن رمضان شهرُ الأخلاق الفاضلة ، وشهرُ التَّسَامُحِ والعفو والمغفرة ، شهر الجود والكرم والإحسان ، شهر ٌأبعد ما يكون فيه المسلم عن الظلم والفجور والفسق ، ولكن يأبى بعضٌ من الناس ، ممن هم ضِعَافِ الْعُقُولِ، الذين لم يهذبهم الإسلام ، ولم تستنر بصائرهم بآدابه ، ممن جهلوا أخلاق الصائمين ، يأبون إلا أن يَقْلِبُونَ حقيقته ، ويشوهون معانيه ، فإذا انْفَعَلَ بالغيظ ، أَوْ تَمَلَّكَهُ الغضب ، أساء الأدب، وانتهك حرمة هذا الشهر الفضيل ، فيثور وَيَسُبُّ ، وَيَشْتِمُ ويضرب ، ويؤذي الناس بتصرفاته ، وإن عوتب اعتذر وقال إني صائم ، واللهُ بريء من كل ذلك ، فالصِّيام يُخَلِّقُ النفس الكريمة ، بالأخلاق الفاضلة ، فالصَّائم ملاكٌ طَيِّبٌ يمشي على هذه الأرض ، بِنَشْرِ الخير والبر ، فلا ترتفع يده إلا بالضَّراعة ، ولا تمتد يده إلا بالإحسان ، ولا ينطقُ لِسَانُه إلا بالصدق ، ولا يتعامل إلا بالتي هي أحسن ، ويضع نصب عينيه دائما ، قول حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم « إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ إِنِّى صَائِمٌ ، إِنِّى صَائِمٌ ». والمرء المسلم كذلك ، يستشعر الحكمة من فرض الصيام، وهي تقوى الله سبحانه وتعالى ، التَّقوى التي تجنبه الوقوع في المحرمات ، وَتَحُولُ بينه وبين النار، وغضب الجبار، يقول سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183 ، فعلى الصائم ، أن يجنب نفسه وينزهها عن كل عمل محرم ، أو قول مذموم ، فلا تكن ممن يتعب نفسه بالصيام والقيام ، وليس له منه إلا الجوع والعطش والسهر والتعب ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :« رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ». فاحذر أيها المسلم أن تكون أنت المقصود بهذا الحديث .
عباد الله : إن من حكمة الله تعالى، أن يبتلي عباده بنقص في الأموال، والأنفس والثمرات ، وقد يعاقبهم بما كسبت أيديهم، لعلهم يستيقظون ويتوبون، ويرجعون إلى ربهم ، كما قال تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41. وما غلاء الأسعار في هذه الأيام ،إلا من أجل إيقاظ قلوب الناس من غفلتها، وتذكيرهم بخطر الإسراف والترف، والانغماس في المعاصي { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }الشورى30 ويقول سبحانه { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }الرعد11. وشكا الناس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه غلاء الأسعار فقال { أَرْخِصُوهَا بِأَعْمَالِكُمْ } أي : بالتوبة والاستغفار، والإقبال على الله وكثرة الدعاء ، أراد رضي الله عنه ، أن يبين بأن غلاء الأسعار، عقوبة ٌمن الله ، لا يرفعها إلا التوبة والإنابة .. واللهِ ياعباد الله ، نحن نخطئُ في حق أنفسنا ، فنسرف كثيرا وَنُضَيِّعُ كثيرا ، ونسينا أوتناسينا أن ما نرميه في القمامة ، أكثر مما ندخله في بطوننا ، إن لسان حال المؤمن العاقل لَيَقُولُ : ما أحلم الله علينا، إِذْ جَعَلَ الْعُقُوبَةَ فقط في غلاء الأسعار ، ونخشى أن تكون العقوبة القادمة أشد وأنكى ، وقد تكون زوال النعمة نعوذ بالله من ذلك .
عباد الله : لا ينبغي أن يكون شَجَعُ التُّجَار، وَتَسَلُّطَهُمْ وأنانيَّتَهُم ، حائلاً بيننا وبين محاسبة أنفسنا . وأنتم يا معشر التجار، تذكروا قول النَّبي صلى الله عليه وسلم « إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا ، إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ ». وليس من التقوى ، إرهاق إخوانكم ، وَتَكْلِيفِهِمْ من الأسعار ما يشقُّ عليهم !!! اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك ، اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا ، من لا يخافك ولا يرحمنا . أقول قولي هذا واستغفر لله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، ملك يوم الدين ، أحمده تعالى و أشكره ، و أثني عليه و أستغفره ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن سيدنا و نبينا وحبيبنا محمدا عبده و رسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله و صحبه أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .أمّــــا بعــــد :
أيّها المسلمون : وهذه وقفةٌ فقهية ، عن أشياء إذا فعلها الصائم لا يَفْسِدُ صيامه ، نذكر منها – الحجامة فلا يَفْسِدُ الصوم بها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم . وكذلك بلع الريق ، أو دخول الذباب أو البعوض إلى حلق الصائم لا يُفْسِدُ الصيام ،لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، وكذلك يعفى عن قليل الدم ، الذي يخرج من بين الأسنان يبتلعه الصائم ، وكذلك غبار الطريق ، الذي يصل إلى الحلق، لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، والناس محتاجون للمشي في الطرقات . وكذلك غبار الصنعة للصانع ، فإنه يعفى عنه للصانع ، مثل غبار الدقيق للطحان ، وغبار الكيل للكيال ، وغبار الجبس أو الجير أو الإسمنت ، لعمال المحاجر والمصانع ، لأنه لا يمكن لهم الاحتراز منه ، ولا يجوز لغيرهم التعرضَ لَهُ ، فإن تعرض غيرهم للغبار ووصل إلى حلقه ، أفسد صومه . كذلك الحقنة في العضل، أو في الوريد لا تفسد الصوم ، لأنها لا تفضي إلى المعدة ، ولكن الأولى للصائم ، الحقن بالليل لا بالنهار إلا لضرورة ، أما ما يسمى بحقنة التغذية ، التي تحقن في الوريد ، فالظاهر أنها تفطر ، ويجب القضاء على من استعملها في نهار رمضان. وكذلك الدواء أو الفتائل توضع على الجرح ، ولو كان في البطن أو فتحة الشرج ، لا تفسد الصوم ، لأنه لا يصل إلى محل الطعام ، وكذلك خلع السن وحشوها لا يفطر ، إلا أن يصل الدواء إلى الحلق ، فيجب منه القضاء . السواك وتنظيف الأسنان ، جائز للصائم نهارا قبل الزوال وبعده ، لعموم الأمر بالسواك والندب إليه، من غير تخصيص بوقت دون وقت ، أو شخص دون آخر . والسواك المأذون فيه في نهار رمضان، هو ما كان بغير مادة رطبة ، فإن كان بمادة رطبة يتحلل منه شيء في الفم ، مثل المعجون فهو مكروه ، وإذا ابتلع الصائم شيئا من السواك الرطب المنهيِّ عنه ، ووصل إلى جوفه عمدا أو غلبة، لزمه القضاء والكفارة ، لتعدِّيه ، حيث استاك بما هو منهي عنه .. هذا والله تعالى أعلم .. اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا واجعلها خالصة لوجهك وابتغاء مرضاتك ، اللهم أعنا على صيام هذا الشهر المبارك وقيامه ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ صَبْراً يُبَلِّغُنَا ثَوَابَ الصَّابِرِينَ لَدَيْكَ، وَشُكْراً يُبَلِّغُنَا مَزِيدَ الشَّاكِرِينَ لَكَ، وَتَوْبَةً تُطَهِّرُنَا بِهَا مِنْ دَنَسِ الآثَامِ، حَتَّى نَحُلَّ بِهَا عِنْدَكَ مَحَلَّ المُنيبِينَ إِلَيْكَ، فَأنْتَ وَلِيُّ جَمِيعِ النِّعَمِ، وَأَنْتَ مَلاَذُنَا فِي كُلِّ شِدَّةٍ وَكَرْبٍ وَضُرٍّ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نُفوساً مُطْمَئِنَّةً تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ أَشَارَتْ إِلَيْهِمْ أعْلاَمُ الْهِدَايَةِ، وَوَضَحَتْ لَهُمْ طَرِيقُ النَجاةِ، وسَلَكُوا سَبِيلَ الإِخْلاَصِ وَالْيَقِينِ. اللَّهُمَّ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ النَّارِ، وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالْبَوَارِ، وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ الْقَرَارِ، وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَمَغْفِرَتِكَ، يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ..
أبومنير
ليست هناك تعليقات