المسلم وشهر رجب المحرم
المسلم وشهر رجب
المحرم
الحمدُ
للهِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً, وجعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لِمَنْ
أرادَ أنْ يذكَّرَ أوْ أرادَ شُكوراً, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا
شريكَ له, تعالَى عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوّاً كبيراً, وأشهدُ أنَّ محمداً
عبدُه المصطفَى, ونبيُّه المجتبَى, ورسولُه المرتضَى, هدَى به مِنَ الضلالةِ,
وعلَّمَ به مِنَ الجَهالِة, وكثَّرَ به بعدَ القِلَّةِ, وأعزَّ به بعدَ
الذِّلَّةِ, فكانَ بشيراً ونذيراً, وسِراجاً منيراً, فجزاهُ اللهُ عَنْ أُمَّتِه
أفضلَ الجزاءِ, وصلَّى عليه وعلَى آلهِ وصحبِه صلاةً تملأُ أقطارَ الأرضِ
والسماءِ, وسلَّمَ تسليماً كثيراً. …أمَّا بعدُ: فأُوصِيكم- أحباب الله - ونفسِي
بتقوَى اللهِ الجليلِ, فإنَّ تقوَى اللهِ أكرمُ ما أسررْتُم, وأجملُ ما أظهرْتُم,
وأحسنُ ما ادخرْتُم, اتقوا اللهَ في السرِّ والعلَنِ, واجتنبوا الفواحِشَ ما ظهرَ
مِنْها وما بَطَنَ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }القمر 54 .55
.
أيُّها الإخوةُ المسلمونَ:
لقَدْ عَلِمَ كلُّ مَنْ رضِيَ باللهِ ربّاً وبالإسلامِ دِيناً وبمحمدٍ - صلى الله
عليه وسلم -نبيّاً ورسولاً أنَّ للهِ الحُجَّةَ الدامِغَةَ والحِكْمَةَ البالِغَةَ
في تشريِع ما يشاءُ مِنَ الأحكامِ, واصطفاءِ مَنْ يشاءُ مِنَ الأنامِ, وتفضيلِ ما
يحبُّ مِنَ الأزمنةِ, واختيارِ ما يرضَى مِنَ الأمكنِة, فلَقدِ اصطفَى المولَى -
جلَّ جلالُه - مِنَ الملائكةِ رُسُلاً ومِنَ الناسِ رُسُلاً, وفضَّلَ بعضَ
الأمكَنةِ علَى بعضٍ, فمكَّةُ أفضلُ بِقاعِ الأرضِ, ثُمَّ المدينةُ, ثم بيتُ
المقدسِ. وفضَّلَ بعضَ الأيامِ علَى بعضٍ, فعَشْرُ ذي الحِجَّةِ أفضلُ الأيامِ
عِنْدَ اللهِ, ويومُ النحرِ أفضلُ أيامِ الدنيا, ويومُ الجمعةِ خيرُ يومٍ طلَعَتْ
فيه الشمسُ, وليلةُ القَدْرِ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ, وعَدَدُ الشهورِ عِنْدَ اللهِ
اثنا عشَرَ شهراً اختصَّ اللهُ مِنْها أربعةً فجعلَهنَّ حُرُماً وعظَّمَ حُرُماتِهنَّ,
وجعلَ الذنبَ فيهنَّ أعظمَ والعملَ الصالحَ والأجرَ أكرَمَ. قالَ اللهُ تعالىَ: {
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } التوبة:36
. وهذهِ الأربعةُ الحُرُمُ بيَّنَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حجَّةِ
الوداعِ, فعَنْ أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه
قالَ: « إنَّ الزمانَ قَدِ استدارَ كهيئتِه يومَ خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ,
السنةُ اثنا عَشَرَ شهراً مِنْها أربعةٌ حُرُمٌ ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدَةِ
وذو الحِجَّةِ والمحرَّمُ ورجبٌ: شهُر مُضَرَ الذي بينَ جُمادَى وشعبانَ»
متفقٌ عليه. ولقدْ كانَ العربُ يُعظِّمونَ هذِهِ
الشهورَ، ويتمسَّكُونَ بِملَّةِ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ في تحريمِها,
وكانَ يَشُقُّ عليهم تأخيرُ القتالِ ثلاثةَ أشهرٍ متواليةٍ, فعمَدُوا إلى تحليلِ
المحرَّمِ وتحريمِ صفَرٍ مكانَه, فيستحلُّونَ المحرَّمَ عاماً ويُحرِّمونَه عاماً,
وهكَذا حتَّى اختلطَتْ عليهم الأمورُ, وصادفَتْ حَجَّةُ النبيِّ صلى الله عليه
وسلم ،تحريمَهُمُ الذي وافَقوا فيه الحسابَ, فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ،أنَّ
استدارةَ الزمانِ صادفَتْ ما حكَمَ اللهُ به يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ.وتلاعُبُ
العربِ بالأشهرِ الحرُمِ زيادةً ونُقصاناً,تقديماً وتأخيراً هوَ الذي سَّماه اللهُ
عزَّ وجلَّ: النَّسِيءَ فقالَ{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا
لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
} التوبة 37.
عبادَ اللهِ:
وإنَّ مِنْ تعظيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ هذهِ الأشهرَ الحرُمَ أنْ نهانا عَنِ انتهاكِ
حُرمَتِها, وإخفارِ ذِمَّتِها, قالَ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } المائدة:2.
ونحن إذ نعيش هذه الأيام إحدى هذه الأشهر الحرم وهو شهر رجب المبارك ، فينبغي
علينا أن نعرف لهذا الشهر قدره ، وأن لا ننتهك حرمته ، بسفك الدماء المحرمة ،
والاعتداء على الناس بسرقة أموالهم ، والاستحواذ عليها بالقوة وبالقتل ، وإيذائهم
بالأصوات المزعجة ، كإطلاق الرصاص في الليل والنهار ، بغرض إرهاب الناس وترويعهم ،
وإقلاق راحتهم وإزعاجهم ، فالذين يقومون بهذه الأفعال المشينة التي تغضب الله
وتغضب الناس ، ويتعدَّون بها عليهم ظلمًا وعدوانًا, ويتجاوزون الحدَّ الذي أباحه لهم
المولى سبحانه وتعالى ، إلى ما لم يأذن لهم فيه، فيفسدون في الأرض بغير الحق, أولئك
لهم يوم القيامة عذاب مؤلم موجع ، جاء ذلك في البيان الرباني بقوله تعالى {إِنَّمَا
السَّبِيلُ - أي المؤاخذة - عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ }الشورى42
. فاعلم ياعبد الله : أن ارتكاب الذنوب والمعاصي عقابها مضاعف ، في هذا الشهر الذي
عظمه الله عز وجل ورفع من قدره ، وجعله شهرا حراما ، فلا تكن يا عبد الله ممن يرتكب
الآثام والمعاصي والإجرام ، فتنصرف للباطل ، بإعراضك عن منهج الله وشرعه ، فتظلم
نفسك وتظلم غيرك وتكون من المعرضين الذين قال الله فيهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ }السجدة22
فَاتَّق
الله يا بن آدمَ واحذر
يوم لا يغني عنكَ مالكَ شيئا
واتَّبِع
مابه أُمِرتَ وَأَصْلِحْ
وَاسْتَقِمْ واسْلُكْ الطريقَ
السَّوِيَّا
وَاسْعَ
بالخير بين قومِك دومًا
واعْمَل الصَّالِحَات وَاخْشَى
الْعَلِيَّا
وَاجْتنبْ
مانَهاك عنه ولا تَعْصِى
فويلٌ لمن يكون عَصِيَّا
وابتعدْ
ماستطعت عن كُلِّ إِثْمٍ
وَفُجُورٍ وَكَنْ عَفِيفًا أَبِيًّا
فلنتق
الله عباد الله ولنتب ونرجع إليه ونعمل الأعمال الصالحات ، فإنها خير لنا في الدنيا
ودخرٌ لنا في الآخرة ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ }الأنبياء94.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم
، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. ادعوا الله وأنتم
موقنون بالإجابة ..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وكفَى, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الذي
وعَدَ فوفَّى, وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه المصطفَى, صلَّى
اللهُ وسلَّمَ وبارك عليه وعلَى آلهِ وأصحابهِ, ومَنْ تَبِعَهم مِنْ أهلِ الصدقِ
والوَفا. أمَّا بعدُ: فاتقو الله عباد الله ، ثم اعلموا أنه كما أن الذنوب تضاعف
عقوبتها في هذا الشهر لعظمته ، فإن الأجور فيه تضاعف لبركته ، بالقيام بالأعمال
الصالحة ، كالصدقات ، ومساعدة الناس في قضاء حوائجهم ، والأهم من ذلك تصفية القلوب
وتنقيتها من كل أمراضها ، بحب الخير للجميع ، فبلادنا لن تبنى إلا بهذا الحب وهذا
الصفاء بين الناس ، كذلك نحرص على الدعاء بالبركة في هذه الأشهر للعباد والبلاد ،
فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-
إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ « اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَارِكْ
لَنَا فِى رَمَضَانَ ». وَكَانَ يَقُولُ « لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ غَرَّاءُ وَيَوْمُهَا
أَزْهَرُ ». جعلنا الله ممن ينال الأجر والثواب ، في هذا اليوم والمبارك ، وهذا الشهر العظيم ،
هذا ثم عطروا الأفواه بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، فقد أمرنا المولى عز
وجل بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى قولا كريما {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
}الأحزاب56 ، اللهم صل وسلم
وبارك على سيدنا محمد صلاة ننال بها شفاعته ، ونكرم بزيارته ، والشرب من حوضه ، وعلى
آله وصحبه وسلم ،، اللهم بارك لنا في رجب وشعبان ، وبلغنا رمضان ، اللهم اجعل
أيامنا دائما مباركة ، وأعمالنا صالحة ، وأرزاقنا طيبة مباركة ، وأوقاتنا عامرة
بذكرك وطاعتك ، يارب العالمين ، اللهم بحرمة هذا الشهر المبارك ، وهذه الأيام
الفاضلة أن تجعل بلادنا آمنة مطمئنة محفوظة بعنايتك ورعايتك ، واحفظها من شر
الفساد والمفسدين ، والظلم والظالمين ، والحاقدين وكل معتدٍ أثيم ،اللهم يا مولانا
وفق من وليتهم أمور بلادنا ، وأعنهم على كل خير وعمل يسعد العباد والبلاد ، وقرب
إليهم البطانة الصالحة وأبعد عنهم البطانة السيئة ، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا
اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما ، وتفرقنا من
بعده تفرقا معصوما ، ولا تجعل فينا ولا معنا ولا ممن حولنا شقيا ولا محروما ، اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا
آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت لنا
راحة من كل شر. اللهم اغفر لمن أسس وساهم في بناء هذا المسجد ، ولمن تصدق عليه ،
ولمن يقوم على خدمته ، ولمن صلى فيه يارب العالمين ، اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات
، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم .. عباد الله {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90 اذكروا الله العظيم
الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه وآلائه وفضله يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله
يعلم ما تصنعون .
ليست هناك تعليقات