الغفلة
الغفلة
الحمد
لله البديعِ فيما صنع ، الحكيم فيما شرع ، أرشد النفوس إلى هداها ، فألهمها فُجورها
وتقواها ، قد أفلح من زكَّاها ، وقد خاب من دسَّاها ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ، القائل جل وعلا { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا
لَغَافِلُونَ }يونس92
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله ، أيقظ بهديه قلوبَنَا من
الغفلات ، وطهَّر جوارحَنا من المعاصي والسيئات ، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى
آله وصحبه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد فأوصيكم عباد
الله ونفسي بتقوى الله ، فإن تقوى الله سببٌ لسعادة الدنيا والآخرة ، ومن يتقِ
الله يجعل له من كل همٍّ فرجًا ، ومن كل ضيق محرجا ، وييسر له أمره ، وينوِّر له
قلبه ، ويغفر له ذنبه .
معاشر المسلمين :
إن ما يطمح إليه المسلم في وطنه ، حياةً حرة سعيدة ، فيها الأمن والأمان ،
والسعادة والاطمئنان ، ولتحقيقِ هذا الأمل المنشود ، فعلى المجتمع أن يتحلى بسمت
الإسلام ، وأن ينبذ كل ظاهرة سلبية ، تخالف النهج القويم ، التي ينتج عنها فساد
القلوب وسوء الفعال ، فالحياة السعيدة والاطمئنان ، والأمن والأمان ، لا ينتجان
إلا من تحقيق الإيمان وصالح الأعمال ، يقول المولى جل وعلا {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ
مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }النحل97
أيها المسلمون :
إن داءً عضالا قد تفشى في مجتمعنا خاصة ، وفي مجتمعات المسلمين عامة ، فما ذالك
الداء ، الذي باعد بينهم الرأفة والمحبة، والتعاطف والتسامح ، والتراحم والوئام ،
وأصبحوا في خلاف وشقاق ، وضغائن ومنازعات ، وكأن الإسلام لم يأمرهم بالتواصي بالحق
فيما بينهم ، إن هذا الداء عباد الله - هو الغفلة عن الحق ، الغفلة عن السماحة
التي جاء بها الإسلام ، يقول جل وعلا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي
غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ، مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }الأنبياء.2.1
. فالغفلة يا عباد الله حجاب عن الله ، وحرمانٌ للمرء عن لذةِ الإيمان ، وحسرة
وندامة يوم القيامة ، وقد حذرنا الله
سبحانه وتعالى منها فقال عزَّ شأنه { وَأَنذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ،
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }مريم39.
عباد الله :
إن أخطر شيءٍ في حياة الإنسان ، هو الغفلة عن أعظم شيءٍ في الوجود ، وهو الصلة
بالله تعالى والتقرب إليه ، والانغماس في متاهات الدنيا وشهواتها ، إلى أن يقضي
الله أمرا كان مفعولا ، فيقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ، يقول جل وعلا
{ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا
وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ }يونس7
معاشر المسلمين :
يُعاقب الغافل بالصرف عن الحق ، فلا يفهم كلام الله جل وعلا ، ولا ينتفع بالعظات ،
تراه يُؤْثِرُ اللهو واللعب ، على العبادة والطاعة ، وَيُؤْثِرُ الفجور والفسوق
على التقوى ، يرى الباطل حقًّا والحقَّ باطلاً ، تلتبس عليه الأمور ، ويسير في
الدنيا على غير بصيرة ، والسبب في ذلك ، غفلته وإعراضه التي عوقب بها ، يقول
سبحانه وتعالى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ
يُؤْمِنُواْ بِهَا، وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ،
وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا ، وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }الأعراف146
، فمن سيعيش في غفلة ، سيموت غافلا ، وسيبعث غافلا أيضا .
أخي المسلم :
إن ثمرة الغفلة مرَّةٌ ، وعاقبتها أليمة ، فلا تكن غافلا واحذرها ، وإذا وقع في
قلبك شيءٌ منها ، فسارع بطردها وإخراجها من قلبك ، بعظةٍ تسمعها ، أو بآياتٍ
تتلوها ، أو بركعةٍ تصليها ، أو بدعاءٍ تتضرع به إلى الله جل وعلا ، حتى تحرس قلبك
من التمادي في الغفلة والاستمرار فيها.
لذلك حذر الله سبحانه وتعالى عباده منها ونهاهم عنها ، لما لها من خطورةٍ على
المسلم ، فقال سبحانه مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم ، واعظاً أمته { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً
، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ، وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ
}الأعراف205
. فاتقوا الله عباد الله ولا تكونوا من
الغافلين ، وحفظوا قلوبكم وجوارحكم من الذنوب والمعاصي ، بذكر الله وطاعته جل وعلا
، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين له بقلوبنا وجوارحنا ، وأن لا يجعلنا من
الغافلين ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي
ولكم ، ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ، ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم .. ادعوا الله
وأنتم موقنون بالإجابة .
الخطبة الثانية
الحمد
لله الذي أنزل كتابه الكريم ، هدىً للمتقين ، وعبرةً للمعتبرين ، ورحمةً وموعظةً
للمتقين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا
محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد
فيا عباد الله - إن الدواء من داء الغفلة ، هو يقظة القلب من غفلته ، أن يفيق
القلبَ ويعلمَ الحقيقةَ التي خُلق من أجلها ، وأن يُبصر النور بعد أن عَمِيَّ عنه
وتاه ، وأن يصير القلب حيِّا بصيراً ،
يؤْثِرُ الحقَّ على كلِّ ماسواه ، قال تعالى { أَوَ مَن كَانَ مَيِّتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ، وَجَعَلْنَا
لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِّنْهَا }الأنعام122.
وحياةُ القلبِ عباد الله ، أن يفهم معنى الحياة ، وحقيقةَ العبوديةَ لله ، فيتغيرُ
المرءُ ظاهراً وباطنا ، وينعكس نور القلبِ على نور الوجه ، وكم بين الغافلِ والْيَقِظِ
من فرقٍ عظيم .
وَكَيْفَ
يَعِيشُ لِلْبُسْتَانِ غَرْسٌ
إِذَا مَا عُطِّلتْ عَنْهُ السَّوَاقِيَ
نسأل
الله جلَّت حكمته ، وعمَّت نعمته ، أن يُعمِّر قلوبنا بالتقوى والإيمان ، وأن يديم
علينا يقظة قلوبنا ، وأن يحفظنا من الغفلةِ وَتَبِعَاتِهَا ، إنه سميع ٌقريبٌ مجيبُ
الدعاء ، هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله ، على حبيب الحق وشفيع الخلق ، الهادي
البشير والسراج المنير ، كما أمرنا بذلك اللطيف الخبير ، فقال تعالى قولا كريما { إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56
. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين ومن
تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ، اللهم
أعز الإسلام وانصر المسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين ،
واجعل بلدنا هذا سخاء رخاء ، أمنا وأمانا ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم احفظ
بلادنا ، من شر الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار، وارزقنا اللهم
صلاح الآل والمآل ، فأنت ولي الجود والكرم والنوال ، اللهم من سعى إلى إصلاح
وتوفيق وتآلف بين الناس ، اللهم ارزقهم الأجر العظيم والثواب الجزيل ، وبارك في
خطاهم واجعل الجنة مثوانا ومثواهم ، إنك سميع قريب مجيب الدعاء ، اللهم اغفر ذنوب
المذنبين من المسلمين , وتب على التائبين , واكتب الصحة والسلامة والعافية لعموم
المسلمين , اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين , ونفس كرب المكروبين , واقض الدين
عن المدينين , واشف مرضانا ومرضى المسلمين , وارحم موتانا وموتى المسلمين
، برحمتك يا أرحم الراحمين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا
للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم .. عباد الله : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } النحل90
. اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر
والله يعلم ما تصنعون .
ليست هناك تعليقات