جديد المدونة

المصالحة الوطنية مطلب شرعي ووطني وإنساني

المصالحة الوطنية مطلب شرعي ووطني وإنساني

الحمد لله الذي جعل العفو والتسامح من صفات المحسنين ، نحمده سبحانه وتعالى ونشكره القائل في كنابه المبين {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }آل عمران134 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله القائل صلى الله عليه وسلم:« أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَكْرَمِ أَخْلاَقِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ تَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِى مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ ». صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد : فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، فإن التقوى هي سلم الرضوان ، والطريق لميراث الجنان ، قال ذلكم ربكم في محكم البيان { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }مريم63.

إخوة الإيمان والإسلام : طفلٌ صغير كان يعيش في كنف أبيه ، الذي كان يغدق عليه من حبه وحنانه، فاستثار ذلك الحب والحنان ، إِخْوَتَهُ من أبيه عليه، فحقدوا عليه بلا ذنبٍ ارتكبه ، ولا تقصيرٍ في جانبهم فعله ، فأخذوا يَعْقِدُونَ الاجتماعاتِ السِّرية بينهم ، يتفكرون فيها كيف يتخلصون منه ، ثم استقر رَأْيَهُمْ على أن يقتلوه ، بإلقائه في بئر، ويتخلصوا منه ومن جثمانه ، وَاحْتَالُوا على الأبِ وأخذوا الطِّفْلَ البريء ، وجردُوه من ثوبهِ وألقوْا به بلا رحمةٍ أو شفقة ، أو مراعاةٍ لِدَمِ النَّسَبِ الذي بينهم، في غَيَاهِبِ ذلك البئر أرادوا قتله ، وأراد الله له الحياة ، فمكث في ذلك البئر ينتظر الفرج ، ممن بيده مفاتيحُ الفرج ، وبينما هو في مجلسه ذاك ، إذا بحبلٍ ودلوٍ يَتَدَلَّى ، فتمسك به وصعد ، وإذا به بين يدي رجالٍ قُسَاةِ الْقُلُوب ، فرحوا به ، لا لأنه إنساناً أنقذوه ، ولكن لأنه يمكن بيعُهُ في سوق العبيد، وأخذوه وباعوه ، وبدأ في رحلةٍ مرهقةٍ متعبةٍ ، فمن كيد النساء إلى السجن ، حتى مَكَّنَ الله له بعد ذلك في الأرض ، وإذا بأخوته الذين كادُوا له ، أَتَوْهُ فقراء أذلاء ، فلما عَرَّفَهُمْ بنفسه ، سُقط في أيديهم وقاموا يعتذرون ، فهل انتقم منهم ، هل عاقبهم على رحلة العناء والتعب ، التي كبدوه إياها ، على حرمانه من حنان الأب ، الذي حرموه إياه . لا . بل عفا عنهم، نعم عفا عنهم ، لأن هذه هي أخلاق المتقين ، هذه هي شيمة الرجال ، وعنوان الرجولة ، أتدرون من هو هذا الرجل الشهم ، إنه الكريم ابن الكريم ، إنه نبي الله يوسف عليه السلام ، واستمعوا للمقطع الأخير من القصة ، يقصها عليكم العليم الخبير، لتظل نبراساً لأهل العفو ، والصفح والمسامحة: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ، قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ، قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ، قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الله أكبر. الله أكبر ، هذا نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، تعالى على كُلِّ ما أصابه بسبب إخوته، لِيُحَلِّقَ في سماء العفو والصفح والمسامحة ، نعم ! إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، تلكم قاعدة ذهبية ضاعت في زحمة الحياة المادية ، كم نحتاجها اليوم ، لمصالحتنا الوطنية ، كم نحتاجها للعفو والمسامحة والمصالحة ، مع أبناء وطننا وبلدنا ، ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء أبناء بلدهم ، وممن لم ينهبوا ثروات الليبيين ، وممن لم يغتصبوا الحرمات ، ويعتدوا على الأموال والممتلكات ، نُسَاءِلَ أنفسنا أين نحن من كتاب ربنا ، الذي بين أيدينا ، يقص علينا قصة يوسف وإخوته؟ أتظنون أنها قصص للتسلية فقط؟ لا . بل القرآن منهج حياة ، وفي سياق القصةِ نَفْسِهَا ، قصةُ ذلك الأب المكلوم، يعقوبَ عليه السلام ، الذي فقد ولده الحبيب المقرب إلى نفسه ، فنزل به مِنَ الهمِّ والحزن ما الله به عليم ، وأستبد به البكاء حتى عميت عيناه ، ومع ذلك صفح عن أولاده وعفا عنهم ، واستغفر لهم، واسمعوها طريةً نديةَ ، من كتاب ربنا إذ يقول جلَّ في علاه { قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ، إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. ما دعا عليهم ، وما عنفهم أو زجرهم ، وما هجرهم ، ولكن عاملهم بخلقِ العفو ، والصفح والمسامحة، فأين آباءٌ من أُمَّةِ الإسلام ، هجروا أبناءهم من أجل أخطاءٍ بسيطة تافهة ، وَدَعَوْا عليهم ، فكانوا عياذاً بالله سَبَبَ شقائهم؟ أين هم من موقف يعقوب عليه السلام مع أبنائه ؟ ..

إخوة الإيمان والإسلام : وهذا نبينا وقدوتنا ، عليه الصلاة والسلام ، مكرت به قريشٌ في جاهليتها ، آذوه وعذَّبُوا أصحابه ،أخرجوه من بلده، خططوا لقتله ، حاربوه في دينه ومعتقده ، قاتلوه وقتلوا أصحابه ، وكانوا حريصين على قتله ، ومع كلِّ ذلك ، يوم أن مَكَّنَهُ الله من رقابهم ، يومَ فتحِ مكة ، خاطبهم وهو واقفٌ على باب الكعبة ، وهم وقوفٌ تحت قدميه ، ما تظنون أَنِّي فاعلٌ بكم؟ فجاءهُ الرَّدُ من قلوبٍ خائفة، ذليلةٍ وجلة ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ، فماذا فعل فيهم صلى الله عليه وسلم ، بأبي هو وأمي وبالنَّاس أجمعين؟ خاطبهم بذلك الخطاب ، الذي يُمْسِكُ بِأُذُنِ التَّارِيخِ وَالْبَشَرِيَّةِ ، لِيَصُبَّ فِيهَا أَرْوَعَ صِوَرِ الْعَفْوِ وَالْمُسَامَحَةِ ،اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاء ، مع كُلِّ ما فعلتمُوه ، أذهبوا فأنتم الطلقاء ، مع كل ما ارتكبتموه ، الله أكبر ، الله أكبر . هذه هي أخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو تسامحه وعفوه ، مع من أساءوا إليه وعذبوه وعذَّبوا أصحابه ، في مسند الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ ، سَأَلَتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها ، فَقُلْتُ أَخْبِرِينِى عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }الأحزاب21 . نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم ، وبهدي سيد المرسلين ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ، ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ...

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله ،، ثم اعلموا أنه علينا أن نتأسى بأخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ونسعى للتصالح والتسامح ، من أجل بناء ليبيا المستقبل ، دون أن نترك محاسبة كل من تلطخت يداه بدماء الليبيين ، سواء بالقتل أو الاغتصاب أو اختلاس الأموال، وأن نجعل القضاء الليبي هو الفيصل في كل القضايا، بتطبيق القانون ورد المظالم والحقوق إلى أهلها ، ورد الاعتبار إلى كل من اعتُدِىَّ عليه وانتهكت أعراضه وأمواله وممتلكاته .

إخوة الإيمان: واعلموا كذلك ، أنه لن تبنى الدولة الليبية الحديثة ، إلا بالمصالحة والتسامح والصفح ، وإعادة اللحمة الوطنية ، ونبذ عقيدة روح الانتقام من الآخر، وعلى الليبيين جميعا توحيد الصف ، ونبذ الفتنة والفرقة ، وطي صفحة الماضي، وإقامة العدالة الاجتماعية ، والبعد عن لغة التخوين أو الانتقام ، والسعي بجدية إلى المصالحة الوطنية، التي تجمع ولا تفرق ، وترد الحقوق ولا تقطع الرقاب .يقول سبحانه وتعالى { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }الشورى40 . ويقول جلَّ في علاه { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ، فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ، إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }المائدة39 . جعلنا الله جميعا ممن يتخلَّقُ بخلق التسامح ، والعفو والإحسان والتصالح ، وهدانا ووفقنا لكل عمل صالح ، اللهم احفظ بلادنا واحفظ شبابنا وشباب المسلمين من كيد الكائدين ومكر الماكرين والمخربين والمفسدين ، اللهم قوِّ إيمان شباب بلادنا وشدَّ من عزائمهم من أجل حفظ البلاد وسعادة العباد ، اللهم جنب شبابنا وشباب بلادنا خطر السلاح والدماء ، اللهم اجعل مستقبلهم مستقبلا سعيدا ناجحا، اللهم حسِنْ أخلاقهم في أقوالهم وأفعالهم ، وسلوكهم وفي شوارعهم ومدنهم وقراهم ، وأعنهم على أعمالهم الصالحة ، اللهم اجعل بلادنا وحدةً واحدة ، متسامحة متصافية متصالحة ، من أجل لحمتها الوطنية ، اللهم اجعلنا بعيدين عن الحقد والحسد والغل والضغينة والمكر، اللهم اجعلنا ممن يسعى لبناء ليبيا ومدنها وقراها ، اللهم جعلها بلاد خير وأمن وأمان ،اللهم أبدل خوفنا أمنا، وبغضنا حبا ، وحزننا سرورا ، وتأخرنا تقدما ، وَذُلَّنَا عزا ، وضعفنا قوة ، وتقاطعنا تواصلا ، وقسوتنا رحمة يا كريم ، اللهم منَّ على الشهداء الأبرار بالمغفرة والرضوان والمنازل والحور الحسان ، اللهم داوي الجرحى واشف المرضى يا رءوف يا رحمان ، واغفر للموتى يا أهل المغفرة والرحمة يا أرحم الراحمين ، اللهم يا حنان يا منان منَّ علينا بالخير والرزق المبارك، والصحة والعافية والأمن والأمان ، اللهم اغفر لمن أسسوا هذا المسجد المبارك ، ولمن يقوموا على خدمته يارب العالمين ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم ، عباد الله { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون ، ويغفر الله لي ولكم والحمد لله رب العالمين ، ويرحم الله عبدا قال آمين .. وأقم الصَّلاة ..









ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون