جديد المدونة

الدُّنيا مزرعة الآخرة


الدُّنيا مزرعة الآخرة

الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمهُ الباطنة والظاهرة، وجعل الدنيا لنا مزرعةً للآخرة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل سبحانه وتعالى{ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }النساء77 . وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، القائل عليه الصلاة والسلام « . فَوَ اللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ. وَلَكِنِّى أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ » رواه مسلم. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى في السِّر والعلانية، واعلموا أننا لم نخلق عبثاً، ولم نترك سدى، خلقنا الله تعالى لعبادته، وأمرنا بتوحيده، وأمدنا بنعمه الغِزَار، وسخر لنا الليل والنهار، لنستعين بذلك على طاعته، وأرسل إلينا رسوله، وأنزل علينا كتابه، ليبين لنا ما يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ، وما ينفعنا وما يضرنا، وما نحن قادمون عليه من الأخطار والأهوال، فلنأخذ حِذْرَنَا، وَلِنَسْتَعِدَّ لما أمامنا، فالعملُ في هذه الدنيا، والجزاءُ في الآخرة ، يقول سبحانه وتعالى { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }الأنعام32 . ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : {ارْتَحَلَتِ الدنيا مُدْبِرَة، والآخرة مُقْبِلَة، وَلِكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل }.فَمِنْ أَيِّ الأبْنَاء أنت أيها المسلم ؟!

عباد الله: لنستمع إلى هذا النداء الخالد ، من المولى عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ، وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فاطر الآية: 5 - 6. فربنا سبحانه وتعالى ينادينا وَيُؤكِّدُ لنا، أنه لا بد من وقوع مَا وَعَدَنَا به ، من البعث والنشور، والجزاء على أعمالنا بالثواب والعقاب، وَيُحَذِّرُنَا من فتنتين ، تَصُدَّانِ العبد عن الاستعداد للقاء هذا الوعد الحق، هما: فتنة الدنيا، وفتنة الشيطان، وكم في كتاب الله من التحذير من الاغترار بهذه الدنيا وذمِّهَا، وبيان سرعة زوالها ، وَضَرَبَ الأَمْثَالَ لها ما يكفي بعضه زاجراً لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد.

أيها الإخوة المؤمنون: إن الدنيا في الحقيقة لا تُذَمُّ لذاتها، فهي قنطرةٌ إما إلى الجنة وإما إلى النار، والمذموم فيها ، اشتغال العبد بالشهوات ، والغفلةِ  والإعراضِ عن الله والدار الآخرة، وإلا فالدنيا مَبْنَى الآخرةِ وَمَزْرَعَتِهَا، ومنها يؤخذ الزاد إلى يوم التناد ، يقول سبحانه وتعالى{ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } البقرة الآية: 197 . ويقول جل وعلا { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } الحاقة الآية: 24. فإن أعمالنا في هذه الحياة ، هي الحصيلة التي نخرج بها من هذه الدنيا ، ويترتب عليها مصيرَنَا الأخروي ، فما ظنُّكُمْ بحال من خرج من الدنيا ، وكانت أعماله فسادا وتخريبا للبلاد ، وإرهابا وقتلاً وترويعا للعباد ، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم :« يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ » رواه البخاري. ورحم الله القائل :  

يَا زَرِاعَ الْخَيْرِ تَحْصُدْ بَعْدَهُ ثَمَرٌ

                 وَيَا زَرِعَ الشَّرِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْوَهَنِ

فكن يا عبد الله زارعا للخير في هذه الدنيا، ولا تكن زارعا للشر ، لأن العمل هو رفيق الإنسان في قبره ، ينعم به إن كان صالحاً ، ويعذب به إن كان سيئاً.

إخوة الإيمان: لقد حدثنا القرآن الكريم ، عن غايات الناس ومقاصِدِهِمْ في هذه الحياة الدنيا، فبين أن منهم من لا هم له ، إلا التمتع بما فيها من الزينة الظاهرة، يقول الله عز وجل: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ ، وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ، ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }آل عمرانالآية: 14.وذكر صِنْفاً آخر ، لاَ هَمَّ له إلا إِذْكَاءِ الفتنِ والشُّرُورِ بينَ النَّاس، قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ، وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }البقرة الآية: 204 - 205.

أيها الإخوة المؤمنون: إذا كانت هذه هي بَعْضُ غاياتِ الناس واهتماماتهم، فإن قُدْوَتُنَا هو سيدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جعل هذه الدنيا مطية للآخرة، واستعملها في طاعة الله وخاف من التنعم بها، وأورث أصحابه ذلك، ففي البخاري ، أن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِىَ بِطَعَامٍ ، وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَهْوَ خَيْرٌ مِنِّى ، كُفِّنَ فِى بُرْدَةٍ ، إِنْ غُطِّىَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ ، وَإِنْ غُطِّىَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ ، أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا . ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِى حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ . لقد فهموا - رضي الله عنهم - أن هذه الدنيا للامتحان والابتلاء ، فَاعْتنَوْا بما خُلِقُوا له ، وأعرضوا عن حظوظ الدنيا بالزهادة فيها. فأين نحن من الدنيا والانغماس فيها والتكالب على شهواتها وملذاتها، وكأننا مخلدين ، فهل اتعظنا من ابتلاءاتها كما اتعظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم  {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ، نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا ، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }الشورى20 نسأل الله تعالى أن نكون من المتعظين ومن المفلحين الناجحين في الدارين ، إنه سميع قريب مجيب الدعاء ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، خلق كل شئ فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فلنتق الله عباد الله ولنستغل أوقات حياتنا فيما ينفعنا في الدار الآخرة { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ  } الشعراء الآية: 88 - 89،.

معاشر المسلمين : إن هذه الأوقات التي نعيشها، إذا لم تعمر بالطاعات ، سوف نخسرها ونتحسر على فواتها ، قال تعالى: { وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، } العصر، فتأمل أخي المسلم مع أي الصنفين أنت؟ أَمَعَ الخاسرين أَم مَّع الرابحين؟ فلنعمل جميعا على سعادة أنفسنا في هذه الدنيا ، بالعمل الصالح وكسب الرزق الحلال ، والمساهمة الجدية الفاعلة في بناء وطننا الحبيب ، وليتفقد كل منا نفسه ، أين هو من هذا البناء ، وأي عملٍ سيتركه بعد موته ، ليكون صدقة جارية يأتيه ثوابها وهو في قبره ،  في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ». ، نسأل الله تعالى أن يبارك في أعمالنا وأعمارنا ، وأن يرزقنا أعمالا صالحة يصلنا ثوابها وتنفعنا في الدنيا والآخرة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، هذا ثم صلوا وسلموا رحمكم الله ، على رسول رب العالمين ، وخير الخلق أجمعين ، فقد أمرنا بذلك ربنا الكريم ، في محكم كتابه المبين ، فقال تعالى قولا كريما  {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ،، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلدنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اجعلنا ممن سعى لإصلاح البلاد فكان من المفلحين الناجحين ، ولا تجعلنا ممن يسعى للفساد والخراب فيكون من الخاسرين ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت لنا راحة من كل شر، اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يخشاك فينا ولا يرحمنا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار عباد الله ذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه وآلائه وفضله يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ..




ليست هناك تعليقات

نعتز بديننا وبتراثنا وأصالتنا

المتابعون